يقول الإمام النووي رحمه الله: باب: الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار.
فالكلام هنا عن صفة تكون فيمن يأتي الصلاة، وفيمن يذهب لطلب العلم، وإلا فالصلاة فريضة لابد وأن يصليها المسلم، لكن المندوب أن يأتيها وعليه السكينة والوقار؛ لأنه مقبل على الله سبحانه، فقد أخرجه الله من بيته وأنعم عليه بأن هداه إلى أداء الصلاة دون باقي الناس الذين يجلسون في الطرقات، فليتفكر في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه دون غيره، وكيف أن الله كتب له وهو ذاهب إلى المسجد بكل خطوة حسنة والأخرى تكفر سيئة، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل.
أيضاً: إذا دخل في الصلاة تتساقط بعض الذنوب، فإذا ركع تساقطت بعض الذنوب، فإذا سجد تساقطت بعض الذنوب كذلك حتى يخرج من الصلاة ولا ذنب عليه.
أما إذا خرج من بيته ضاحكاً لاهياً فلن يتفكر في هذه النعم، وإذا دخل في الصلاة فمشغول في الدنيا وهكذا دخل في الصلاة وخرج منها من غير ما تفكر.
وفرق بين من يدخل في الصلاة وهو يخاف من الله سبحانه وتعالى، وهو يؤمل أن يخرج منها نظيفاً من الذنوب طاهراً من العيوب ليس عليه دنس من بقايا الذنوب، فهذا إنسان له فضل عند الله سبحانه، فالله يتفضل عليه ويعطيه، وبين إنسان آخر يأتي وعقله مشغول فإذا دخل في الصلاة سرح عنها.
فعلى المسلم أن يستعد للصلاة من البيت فيتوضأ فيحسن الوضوء؛ لأنه إذا أسبغ الوضوء تمحى عنه الذنوب، فإذا غسل وجهه ويديه ورجليه تساقطت الذنوب مع الماء الذي ينزل من أعضائه.
وفي الحديث: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)، فإذا دخل الإنسان في هذه الصلاة بهذه الصورة ثم خرج منها فلينو ألا يعود إلى الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
فهذه الصلاة بهذه الكيفية تنهاه عن التفكير في الذنوب والمعاصي، وتدفعه إلى طاعة الله، وإلى أن يحب بيت الله، فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
فإذا أتى الإنسان إلى الصلاة أو ذهب ليطلب العلم في المسجد فليمش وعليه السكينة والوقار، حياء من الملائكة التي تحفه بأجنحتها وتتواضع وتستغفر له، وسوف تحفه إذا جلس في حلقة العلم، قال تعالى عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، يا ربنا هؤلاء جاءوا إلى بيتك فاغفر لهم.
فالذي يخرج لطلب العلم الشرعي ينبغي عليه أن يكون متواضعاً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فلعله في هذا الطريق يجد فيها من يزاحمه ويتعرض له، لكنه لا يأبه لذلك؛ لأن الله سيسهل له به طريقاً إلى الجنة.
فطريق الدنيا ممتلئ بالصعوبات والعقبات، والذي يطلب العلم لا بد أن يصبر ويستسهل طريقه فيه؛ لأنه دين رب العالمين، وإذا لم يتعلمه فمن سيتعلمه؟ لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر وسوف يكون الجزاء من جنس العمل، فالله سيقبل عليه ويذلل له العقبات التي في طريق الجنة، ففي يوم القيامة سيسهل له المرور على الصراط فيمر إلى الجنة، وكما أنه سهل له في الدنيا طريق العلم فسوف يسهل له في الآخرة طريق الجنة، والمحروم من حرمه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فعلى من يخرج إلى المسجد للصلاة أو طلب العلم أن يتفكر في هذه الأمور كلها، حتى يمشي بسكينة ووقار، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، والشعائر جمع شعيرة، وشعائر الله: دين الله سبحانه، والمعنى: يعظم الشريعة ويعظم الكتاب والسنة، ويعظم العلم الشرعي الذي به يعرف كيف يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا عظم هذه الشعائر كان ذلك دليلاً على تقوى قلبه، ((فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)).
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فهذا الحديث يعلمنا كيف نصلي، وكيف نأتي إلى بيت الله سبحانه، فلا تنشغل حتى تفوتك الصلاة ثم تذهب وتجري إلى المسجد، وإنما استعد قبل ذلك، ولا تأت الصلاة جرياً.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، عندما تخرج من بيتك إلى الصلاة فلتكن هيئتك هيئة الإنسان المصلي عليك الوقار والسكينة.
ولا تجري إلى الصلاة إذا سمعت الإقامة، سواء كنت في الطريق أو في المسجد، ولكن امش إليها؛ لأنك في صلاة، والصلاة ينافيها الجري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم بالسكينة) أي: الوقار والهدوء، والطمأنينة.
وقوله: (فما أدركتم من الصلاة مع الإمام فصلوا) أي: ما تدركونه مع الإمام صلوه، وقوله: (وما فاتكم فأتموا) أي: وما فاتكم من الصلاة فافعلوها ولكم أجر نيتكم في المجيء إلى بيت الله سبحانه.
وزاد مسلم في رواية: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، وهذا فضل عظيم من الله علينا، فمن حين يخرج الإنسان من البيت فهو في صلاة، هذا إذا اجتنب الحدث وكان على وضوء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة) فيوم عرفة خرج النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس من عرفة متوجهاً إلى المزدلفة، وهذا هو الدفع، قال: (فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل) أي: رأى الناس يضربون ويشدون ويحثون الإبل على الجري؛ من أجل أن يذهبوا إلى المزدلفة، (فأشار إليهم بسوطه -وهي عصاه التي يوجه بها الناقة- وقال: أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع) يعني: اسكنوا واهدءوا؛ لأنه كانت عادت الأعراب في الجاهلية عندما يمشون يضجون ضجة كبيرة لكي تجري الإبل، فيعلق فيها أجراس، أو شيئاً له صوت عال، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك وقال: (أيها الناس عليكم بالسكينة) يعني: الزموا السكينة، (فإن البر ليس بالإيضاع)، والبر أن تبر في عملك، والحج المبرور ليس بالإيضاع، أي: الجري فالبر ليس بالجري، كأن تجري للصلاة أو تجري متوجهاً من عرفة إلى مزدلفة، إنما البر أن تتق الله سبحانه وتعالى، ولا تزاحم الناس.
وعن أسامة رضي الله عنه حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى، فسألوه كيف كان يسير؟ قال: كان يسير العنق) أي: معنقاً، يعني: على مهله صلى الله عليه وسلم، (فإذا وجد فجوة نص) أي: فإذا لقي مكاناً خالياً نص أي أسرع صلوات الله وسلامه عليه فيه، فكان يسير العنق مع الزحمة، وإذا لم تكن هناك زحمة أسرع صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض أن الإنسان إذا مشى في طريقه متوجهاً إلى بيت الله، أو متوجهاً إلى طلب العلم، أو متوجهاً إلى حاجة من حوائجه يسير كما يسير عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، حتى لو أسرعوا في مشيهم بسبب حاجة من حوائجهم فإسراعهم فيه الهدوء والسكينة، إلا أن يكون الإسراع إلى الصلاة فلا يجوز لا خارج المسجد ولا داخله، فيكره ذلك ويمنع منه، وليلزم الهدوء والسكينة، ويتفكر في نعم الله سبحانه وتعالى عليه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.