روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم).
اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الواقعة آخر سقف الحنك، والنازلة من آخر الحلق المدلاة على القصبة الهوائية.
فهناك أناس طبيعتهم الضحك بصوت عال وقهقهة، يفتح أحدهم فمه إلى آخره! وهذا لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما كان أنه لو ضحك قد يبدو نابه صلى الله عليه وسلم، فلم تكن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقهقه، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط)، وكلمة مستجمعاً معناه: المبالغة، وكأن الإنسان عندما يقهقهه يجمع نفسه فيضحك ضحكة يزلزل بها الدنيا أمامه! فالقهقهة لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم، إنما كان يتبسم عليه الصلاة والسلام، وكان لا يرى عبوساً أمام الناس عليه الصلاة والسلام، وإنما كان يتبسم لأصحابه وهم يضحكون، فكانوا يجلسون إلى شروق الشمس يذكرون الله عز وجل فيما بين طلوعها وبين أن يصلوا الضحى، ولعل بعضهم يتكلم مع الآخر، ويتحدثون عن الجاهلية وما كانوا يفعلونه، فيحكون أنهم كانوا يصنعون التماثيل من العجوة ويعبدونها، فإذا جاع أحدهم أكلها، فيحكون أمثال ذلك ويضحكون على أنفسهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان يتبسم ولم يكن يضحك ويقهقه.
فمن الأدب أن المؤمن يتبسم عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، ولا يكثر من العبوس، وأيضاً: لا يكثر من الضحك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)، فكثرة الضحك تبعد خشية الله عز وجل من قلب الإنسان، فيموت قلبه من كثرة الضحك.
فيجب على المؤمن ألا يُفْرط ولا يُفَرِّط، والإفراط أن يمسك الإنسان نفسه عن الابتسامة، فيكون ثقيل الظل عند الناس، فالناس يحبون من يتبسم ويضحك لهم، فعلى الإنسان أن يكون قريباً من الناس، والمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
ولو كان الإنسان عبوساً أمام جميع الناس لنفروا منه ولن يبقى له أصدقاء ولا أصحاب بين الناس، وأما لو كان الإنسان ضحاكاً ثرثاراً فيمكن للناس أن يحبوه من أجل أنه يضحكهم فقط، فعندما يريدون أن يضحكوا قالوا: ادعوا لنا فلاناً، فهو يذكرهم بالدنيا لا بالآخرة، فقد يحبه الناس ولكنه بغيض إلى الله عز وجل، فالمؤمن إذا سمع ما يضحك تبسم، وقد يضحك ولكن لا تكون له عادة فيتكلف الضحك ويقهقه حتى ولو سمع شيئاً لا يضحك، فيضحك مجاملة بدون وجود ما يضحك! والمجاملة لا تكون على حساب دين الله سبحانه وتعالى، ولا على حساب قسوة القلب، فالمطلوب من المسلم أن يضحك إذا رأى ما يضحك، أما من غير شيء فلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تكثر الضحك)، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا تضحك؛ لأن هذا شيء عسير على الإنسان الالتزام به، فالدين عظيم وجميل وفيه ما يطيقه الإنسان ويتحمله، والإكثار من التبسم لا مانع منه لكن لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الضحك.
فالإنسان حتى يقبل على الله عز وجل يحتاج إلى أن يتذكر ويتفكر، والضاحك لا يتفكر في شيء إلا في النكت التي يسمعها، أما أن يتفكر في خلق السماوات وخلق الأرض، وفي خلق الإنسان، ويتفكر في نعم الله عليه فلا؛ لأن هذه الأشياء التي يتفكر فيها تمنعه أن يضحك، ولو أن الإنسان يتفكر في نعم الله في مطعمه ومشربه وملبسه، وأعظم من ذلك كله أن يتفكر في نعمة الهداية، فكثير من الناس حرموا هذه النعمة، فلو تفكر في ذلك لما وجد مكاناً ولا وقتاً يضحك ويقهقه فيه، إن ضحك الإنسان يبعده عن أن يتفكر في آلاء الله وفي نعم الله وفي خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكثر الضحك)، لأن كثرة الضحك تميت القلب.