من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه) فالصلاة تكون طويلة، وهذا مقيد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفتان أنت يا معاذ؟ من صلى بالناس فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والمريض وذا الحاجة)، فهنا يشرع له أن يخفف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقرأ بما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ما كان يقرأ، فكان مثلاً يقرأ في فجر الجمعة بسورة السجدة وسورة الإنسان، فهذا من تخفيفه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقرأ بهم بالبقرة، ومع ذلك يقول الفقهاء: على الإمام أن يراعي حال من وراءه، فإذا كان فيهم الضعفاء ومن لا يطيقون ذلك لم ينفرهم.
إذاً: يقرأ الإنسان بما لا يشق على الناس، ولكن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيقرأ في صلاة الظهر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وهذا من التخفيف، لكن لا يأتي في كل صلاة ويقرأ بالفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ويقول: أنا أخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، فهذا -وإن صحت الصلاة- ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت عنه أنه كان يقرأ باستمرار الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، فالذي قال للأئمة: (من أم بالناس فليخفف) فعله يبين ذلك.
فالإنسان عندما يصلي بالناس عليه أن يخفف عليهم، ويراعي أحوالهم فيقرأ بنحو ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته، وذكر الفقهاء في هذا الباب أحاديث فيها بيان ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم فلتراجع في مظانها.
والمقصود هنا أنه قال: (فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)، فإطالة الصلاة هنا إطالة في تخفيف، فلا يقرأ بسورة البقرة بحيث يشق على الناس، ولا يقرأ قراءة خفيفة ويسيرة كصلاة سنة الفجر مثلاً، ولكن يتوسط ويفعل نحو ما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصلاة.
قال: (واقصروا الخطبة) يأمر الخطباء هنا ألا يطيلوا الخطبة، فلا تقعد تخطب ساعتين وثلاث ساعات متعللاً بأن الناس لا يفهمون إلا بذلك، وهذا فيه تحقير لعقول الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت خطبه قصيرة صلى الله عليه وسلم، ويفهم بها الناس.
إذاً: على الخطيب أن يراعي في خطبته عدم الإطالة التي تشق على الناس وتملهم.
وأيضاً لا يتعمد أن تكون الخطبة كلها موزونة ومسجوعة ومليئة بشواهد الشعر؛ لأن الناس سيملون، إذ ليس كل الناس يفهمون ذلك، وليس كل الناس يريدون ذلك، ولكن لا مانع أن يكون في الخطبة من المحسنات البديعية الشيء الذي لا يدخله التكلف، بحيث لا يكون تحضير الخطبة كلها على نسق من السجع والشعر وينسى المضمون نفسه للخطبة.
إذاً: الخطبة هي تذكير وموعظة، وكل يوم جمعة يجتمع الناس ليسمعوا الخطبة، فلابد أن يكون فيها من القرآن ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تذكرة الناس بأخطاء قد يقعون فيها، ويراعي في هذا كله ألا يشق عليهم بالإطالة، فإطالة الخطبة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس علامة على فقه الخطيب، فالفقيه يعرف ما الذي يقال، ومتى يقال، ويتخول الناس بالمواعظ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في الخطبة تذكير الناس وموعظة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (وأطيلوا الصلاة) كان يوم الجمعة يقرأ في الركعة الاولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وفي الركعة الثانية كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وقد يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون، وهذا ضابط الإطالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ليس معنى قوله: (أطيلوا الصلاة) أن يقرأ الإمام بسورة من طوال القرآن، ولكن بالقدر الذي كان يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال هنا: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)، (مئنة من فقهه) بمعنى: علامة على فقه هذا الخطيب، فمن فقه الخطيب ألا يطيل في الخطبة إطالة تمل الناس، وكذلك من فقهه أن يطيل في الصلاة شيئاً بحيث يستمع الناس للتذكرة في صلاة الجمعة وفي غيرها.