شرح حديث ابن مسعود: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)

يوضح ابن مسعود رضي الله عنه ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته، فيقول أبو وائل واسمه شقيق بن سلمة وكان من التابعين ومن تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، يعني: كل خميس يخرج عليهم ويكلمهم ويعظهم، ويذكرهم بالله سبحانه، وابن مسعود كان من كبار فقهاء أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان معلماً للناس، يعلمهم الفقه.

فكان رضي الله عنه يتخولهم بالموعظة، يعني: لا يأتي كل يوم يذكرهم بالجنة والنار؛ لأن الناس يملون من تذكيرهم بالجنة والنار كل يوم، ولكن ليكن ذلك مرة كل فترة، وليس كل يوم.

يقول هنا: كان يذكرنا في خميس، كل يوم خميس كان يذكرهم، فقال له رجل وقد أعجبته مواعظ ابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، يعني: ليتك تقول لنا كلامك الطيب وحديثك الجميل هذا كل يوم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم.

إذاً: ابن مسعود خائف عليهم إن هو ذكرهم ووعظهم وخوفهم من النار ورغبهم بالجنة كل يوم أن يملوا، فإذا مل الإنسان فإن الكلام لا يؤثر فيه ولا يعينه على العمل، ولا يتشجع للعمل بسماعه، فيقول هنا: إني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، يعني: أحياناً يأتيهم بالموعظة وليس كل يوم.

فيقول: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا).

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه عندما يذكرهم ويقص لهم القصص ويخوفهم من النار، ويذكرهم بالجنة، فكان يسكت مدة ثم يتكلم صلى الله عليه وسلم، وهذا أدعى أن يجمع الإنسان همته فيستوعب ما يقوله له من يذكره، فقال هنا: (كان يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) يعني: يخاف أن نسأم وأن نمل من ذلك، فإن الإنسان إذا مل فلعله يستهين بالحديث الذي يلقى أمامه.

فعلى الإنسان أن يتكلم أحياناً ويسكت أحياناً، وأيضاً ينوع في كلامه وأسلوبه؛ لأن الكلام إذا كان مكرراً فإن الإنسان يمل منه ويزهد فيه، فلو جئت إلى رجل تارك للصلاة ودعوته إلى الصلاة فربما يستجيب لك، وربما لا يستجيب، فيمكن أن تذكره بالجنة وتخوفه من النار، لكن لا تأتي إليه في كل وقت وتخوفه من النار؛ لأنه لو تعود على سماع ذكر النار فإنه لن يتأثر حتى إننا نجد أن بعض الجهال إذا خوفته من النار قال لك: كلنا سندخل النار، ولا أحد سيدخل الجنة! وهذا من باب الاستهانة بالنار، فمثل هذا الفعل يوقع المستهين في الكفر، فبعدما كان في معصية أو كبيرة من كبائر الذنوب، أصبح واقعاً في الكفر بسبب الاستهانة بعذاب رب العالمين سبحانه.

فعلى الإنسان الذي يعظ ويذكر، وإذا أراد أن يدعو إنساناً إلى أن يحافظ على الصلاة فيبين له ما في الصلاة من فوائد للإنسان، وما في الصلاة من صلة بين العبد وبين ربه، وما في الصلاة من أجر نتيجة المشي إلى المسجد، وأن له بكل خطوة يخطوها رفع درجة ووضع سيئة، ويحرك في نفسه الغيرة من إخوانه الذين يصلون لينافسهم في هذا الخير، ويكون مثلهم، فعلى الداعية أن ينوع في الخطاب لعل الله عز وجل أن يهدي به من يشاء من عباده.

فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فلو أن الواعظ أخذ يكرر كلامه، فإنه سيمل منه ويعرض عنه، لكن لو أنه غير من أسلوبه وغير من طريقته في الدعوة لهذا الإنسان فلعل الله تبارك وتعالى أن يفتح على يديه فيستجيب هذا الإنسان إلى الدعوة ويستجيب إلى المسجد فيصلي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلين ممن كانوا قبلنا، كان أحدهما عابداً وكان الآخر عاصياً، فكلما مر العابد بذاك العاصي وجده على معصية، فيذكره بالله، ثم يمر عليه مرة ثانية ويجده على المعصية نفسها، فيذكره بالله، فلا ينتهي، وإذا بهذا العاصي لما مل من تكرار صاحبه لدعوته يتطاول على ربه تبارك وتعالى ويقول: دعني وربي، دعني وربي، فإذا بالعابد يقول له: والله لا يغفر الله لك! فهذا العابد مل من كثرة دعوة صاحبه وهو لا يستجيب، وفي النهاية نسي أنه عبد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس له أن يحاسب العباد، وإنما هو يدعو إلى الله عز وجل، فإذا به يقسم على الله سبحانه، ومعنى كلامه: والله ما أنت بداخل الجنة، وكأنه يقرر عن الله سبحانه وتعالى أن فلاناً لن يدخل الجنة! فإذا بالله يقول: (من هذا الذي يتألى علي ألا أدخله الجنة؟ فقد غفرت له وأحبطت عملك) يعني: ما الذي يجعلك تحلف على الله تبارك وتعالى ألا يغفر لعبد من عباده؟! فالإنسان حين يكثر من الشيء فإنه في النهاية قد يمل هو مما يقوله للناس، فيدفعه ذلك لأن يتطاول على أمر الله تبارك وتعالى؛ لذلك الإنسان يتخول الناس بالموعظة، وخاصة في أمر الترغيب والترهيب، ولا يكون الكلام كلاماً مكرراً فيمل الناس من سماعه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015