وعن قيس بن أبي حازم قال: (دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا).
وخباب بن الأرت رضي الله تبارك وتعالى عنه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتلوا ابتلاء شديداً، فلما أسلم رضي الله عنه أخذه المشركون وعذبوه عذاباً شديداً، ومرة في خلافة عمر رضي الله عنه كان الناس يتكلمون عما كان يفعله المشركون بالمسلمين، فهنا كشف خباب عن ظهره رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: ما رأيت أبشع من ذلك، حيث رأى لحم ظهره قد ذاب وكشف عن عظام ظهره، فقد كان المشركون يوقدون النار حتى تصير جمراً ثم يطرحونه عليها حتى تنطفئ بشحم ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهذا الرجل الفاضل رضي الله عنه أصابه بلاء ومرض في آخر عمره وبسبب هذا المرض اكتوى سبع كيات، وقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب.
يعني: بعد الفتوحات أصبنا من الغنائم وجاء لنا من الرزق، وهو لم يذكر أنه كان مجاهداً، وكأنه يقلل من شأن نفسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول خباب رضي الله عنه: إنه من كثرة المال لم يجد إلا أن يحفر مكاناً في الأرض ويجعل فيه هذا المال.
وذكروا عنه في رواية عند الترمذي أنه قال: (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أملك درهماً وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم)، ولا بد أن يكون مال خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا حلالاً، ولكن مع ذلك خاف أن يموت وقد ترك أربعين ألف درهم فيسأله الله سبحانه وتعالى عنها.
ثم يقول رضي الله عنه: (ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب).
من تواضعه رضي الله تبارك وتعالى عنه يذكر الشيء الذي يحقر به نفسه، فالإنسان عادة إذا صار غنياً فإنه يحب أن يظهر أمام الناس بما رزقه الله من المال ويقول: أنا سأبني وأنا سأعمل وأنا عندي، لكن هذا يقول: إن الإنسان يؤجر في كل شيء ينفقه إلا ما يجعله الإنسان في التراب.
يعني: كما يفعل هو في تلك الساعة! قال: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء)، يعني: كل عمل حسن يعمله يؤجر عليه إلا في شيء يجعله في هذا التراب، وهذا محمول على الكثرة، يعني: يكون عنده ما يستغني به ثم يبني بيتاً ثانياً وثالثاً فهذا لا يؤجر عليه عند الله، إنما يكون الأجر على عمل ينفعه، فلعله بنى لابنه أو لابنته، أو أراد بذلك أن يعين إنساناً فيؤجر على هذا كله، أما أن يكثر لنفسه هذه الأشياء فقال خباب: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا يؤجر على ذلك، لكن لا نقول إنه يأثم، وإنما المعنى: أن الذي يكثر من البنيان كأنه يؤمل في الدنيا، وهذا لا يحرم عليه، ولكن غير ذلك أولى، وهو أن يعتبر الإنسان من هؤلاء الأفاضل الذين كان الواحد منهم يبني البيت ومع ذلك لا يمدح نفسه بذلك، وإنما يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرء لا يؤجر على هذا الشيء، ولكن لاحتياجه يصنع ذلك، والله أعلم.
فالمقصود: أن الإنسان المؤمن يذكر الموت فيستعين بذلك على العمل، ويخاف من الموت الخوف الذي يعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن خوفه من الموت يحمله على أن يتذكر الحساب ومن ثم يطيع الله سبحانه بأن يبتعد عن الحرام ويرد المظالم إلى أصحابها.
فالخوف المندوب هو الخوف الذي يدفع للعمل، وليس الخوف الذي يجعل الإنسان يجلس في بيته ولا يصنع شيئاً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يرحمنا في الدنيا وفي قبورنا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.