قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة الأنصاري الحارثي رضي الله عنه قال: (ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا فقال رسول الله: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) يعني: التقحل.
رواه أبو داود.
إن الصحابة بشر، والإنسان أحياناً يتمنى ويتكلم أن في الدنيا كذا وكذا، وفي نفسي أن آكل كذا، فالصحابة جلسوا فذكروا الدنيا يوماً من الأيام فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟).
والمعنى، أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداهم بأن يستمعوا إليه، وفي هذا لفت لانتباههم ليتنبهوا لما يقوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان)، قالها مرتين.
والبذاذة هي التقحل، والرجل المتقحل: هو الرجل الذي يبس جلده من خشونة العيش؛ لأنه لا يأكل أكل المسرفين المترفين، وإنما يأكل أحياناً، يعني: أنه ترك الترفه وترك الكثير من ملاذ الدنيا، وهذا من علامات الإيمان.
إذاً: ينبغي لك أيها المسلم ألا تسرف، بل تأخذ ما تقدر عليه بحيث ولا تؤذي نفسك ولا تخالف شرع الله سبحانه وتعالى.
وقيل: إن البذاذة: هي ترك فاخر الثياب في حالة الإمكان، وترك الفاخر من الطعام والشراب، والإنسان لو عود نفسه على التنعم دائماً بأغلى الأشياء، ثم قل به الحال، فإنه سيبدي التسخط على قدر الله سبحانه، ولو أنه ربى نفسه على البذاذة لما وقع في ذلك.
لذلك كان الصيام تربية للإنسان، وهو شهر في العام يصومه الإنسان، ويستشعر فيه الجوع، وبذلك يستشعر جوع الفقراء المحرومين والمحتاجين، وهو إذا جاع في النهار فسيأكل في الليل، ولكن هؤلاء لعلهم يجوعون بالليل والنهار ولا يجدون ما يشبعهم.
فربنا تبارك وتعالى يربي الإنسان المؤمن على الشعور بحال الفقراء المساكين الذين لا يجدون، فلذلك أمرنا بالصيام، لتصح أبداننا، ونتألم للفقير ونعطيه، ونعرف قدر النعم، فنحمد الله تعالى عليها، ونؤدي حق هذه النعم كما أمرنا الله عز وجل به.
إذاً: البذاذة ترك السرف في الأشياء من الهيئة والثياب الفاخر، والطعام الفاخر، ولا مانع من أن يلبس الإنسان الثياب الفاخرة، ولكن لا يكون هذا دأبه دائماً، لكي لا يصاب بالغرور والكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ما وجد، وإذا لم يجد لبس الثياب التي عنده.
وقد لبس رسول الله ذات مرة ثوباً مرقعاً، وخرج به، فرأته امرأة من الأنصار لابساً إزاراً مرقعاً، فذهبت وخاطت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاراً، وأهدته له، فأخذه ولبسه صلى الله عليه وسلم وهو محتاج إليه لأن الإزار القديم كان مرقعاً، (فلما لبسه رآه رجل يلبسه، فقال: يا رسول الله! أعطني هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ودخل بيته ولبس الإزار القديم وأعطاه الإزار الجديد، فقال الصحابة لهذا الرجل: تطلب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء وهو محتاج إليه؟ فأعطى الرجل عذراً من الأعذار وقال، أنا آخذه لأتكفن به)، وكأنهم يقولون: إذا كنت تريد ذلك ستأخذ الثوب القديم لتتكفن به، وليس الثوب الجديد.
على كل فقد رأى الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم كرم الأخلاق وكرم السجية، وأن الأمر عنده سيان، لبس الثوب القديم، أو لبس الثوب الجديد، ولا أنكر على الرجل شيئاً صلوات الله وسلامه عليه.
فالإنسان المؤمن لا بد أن يعاني ما يعانيه الفقراء ولو بالمشابهة، وذلك بأن يترك الشيء العالي أحياناً في الطعام والشراب؛ ليعرف كيف يعيش الناس الفقراء، وأنهم يأكلون الدون من الطعام الحلال الذي يجدونه، فالمسلم يربي نفسه أحياناً على الدون من الطعام والشراب حتى لا يبطر نعم الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك العالي من الثياب ليس بخلاً، لكن المؤمن يترك العالي من الثياب ابتغاء مرضاة الله وتواضعاً لله، والله عز وجل سيلبسه من حلل الإيمان كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.