ولفظ الإمام البخاري يقول: ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، لقد خبتُ إذاً وضل عملي، وكان بنو أسد قد وشوا به إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ذكرنا في الحديث السابق أن صحابياً فاضلاً وهو عتبة بن غزوان رضي الله عنه كان أميراً على البصرة، ويذكر كيف كانوا في فقر، يقول: (رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زميله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: والآن ما أحد منا إلا وهو أمير، فهذا كان أميراً على البصرة، وسعد بن أبي وقاص كان أميراً على الكوفة، ما الذي جعله يقول هذا الحديث أو هذه الحكاية الذي يحكيها رضي الله عنه؟ كانت بنو أسد قد شكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذْ كان عمر قد عينه أميراً على الكوفة، فكان يسير فيهم بالمعروف، ولا يألو جهده أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، فتضايق منه بنو أسد وتكلموا في شأنه وشكوه إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يريدون أن يعزله، ولم يكن يصلح معهم أحد، فكلما تولى عليهم أميرٌ إذا بهم يشكونه لـ عمر رضي الله عنه.
وسعد كان قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة مباركة أن يسدد الله عز وجل رميته وأن يستجيب دعوته، فالله عز وجل استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكان يرمي ولا يخطئ في الرمي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت دعوته مستجابة، فكان الناس يخافون من دعوة سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
لكنَّ بني أسد شكوا سعداً لـ عمر رضي الله عنه حتى يعزله، وكانت عادة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه يراقب الأمراء، ويسمع شكاوى الرعية، فإذا شكوا أحداً عزله، سواء أنه تحقق من الشكوى ومن صحتها أو لم يتحقق، فقد كان همه أن يريح الرعية ويولي عليهم من يرضون عنه، فكان رضي الله عنه له منطق ووجهة في ذلك، لعله كان يرى أنه طالما اشتكت الرعية الراعي، فإنه لو تركه عليهم لعله ينتقم منهم بعد ذلك فيؤذيهم.
هذه وجهة نظر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أتى بـ سعد وسأله عن ذلك قال سعد: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام).
معنى (تعزرني): توقفني، عندما تقول عن إنسان: أنا أعزره على كذا، يعني: أوقفه على الأحكام الشرعية في كذا، وكأنه يقول: هذه بنو أسد تأتي تعلمني الإسلام، وقد عرفت هذا الدين من قبلهم.
قال: خبت إذاً وخسرت، أو قال: لقد خبت إذاً وضل عملي، يعني: لو كان بنو أسد هم الذين سيعلمونني الإسلام لخبت وخسرت، وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان بنو أسد من أوائل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس لهم فضل أنهم يشكونَ سعداً رضي الله عنه ويقبحون فعاله، وهو من أصحاب الفعال الجميلة، يتكلمون عنه ويقولون: إنه لا يعرف أن يصلي، والإنسان إذا أحب إنساناً رفعه في السماء، وإذا أبغض إنساناً أنزله على الأرض، مثلما قالوا: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإنسان حين يكون ساخطاً على إنسان لا يرى منه إلا العيوب، فيقولون عن سعد رضي الله عنه: إنه لا يحسن أن يصلي، فعزله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبعث يسأل هؤلاء عن سيرة سعد فيهم، وكان قد ولى عليهم عَمَّاراً بعد سعد رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
فلما بعث عمر من يسألهم عن سيرة سعد قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فسأل عمر سعداً وقال: يا أبا إسحاق: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن أن تصلي، فقال له: (أما أنا والله فقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، فأرقد في الأوليين وأخف في الأخريين).
فأرقد: من الرقود، يعني الدوام أو الإطالة، أي: إذا صليت بهم الصلاة الرباعية أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الركعتين الأخريين كسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك! فقال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق! فأرسل معه سيدنا عمر رجالاً إلى الكوفة، فسألوا أهل الكوفة عن سيرة سعد، فلم يدعوا مسجداً إلا سألوا فيه عنه وهم يثنون عليه معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عبس هناك، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة وكنيته أبو سعدة، فهذا الرجل قال لرسول عمر إليهم: أما إذ نشدتنا، يعني: أنت تحلفنا أن نقول الحق فأنا سأقول الحق، فقال هذا الكذاب: فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.
فانظروا ماذا يقول عن سعد الذي كان من المجاهدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل كذلك حتى مات رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية - أي: يقسم المغانم بيننا ولا يعدل فيها فافترى الكذب على سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض: أن سعداً عاقب هذا الرجل عقوبة شديدة بأن دعا عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه دعوة عجيبة جداً، فقال: أما والله لأدعون بثلاث والصحابة كانوا يخافون من دعوة سعد رضي الله عنه، وقد حصل مرة شيء بين عمر وبين سعد فقال: لأدعون عليك، فقال: ادع ولا تدعُ إلا بخير، فالصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم كانوا يعرفون منزلة سعد أنه دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مستجاب الدعوة، فالرجل هذا الذي كذب على سعد استحق أن يدعو عليه سعد رضي الله عنه فقال: لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتنة.
وفعلاً استجاب الله عز وجل دعوة سعد، فقد عاش الرجل وشاخ وكبر سنه، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وكان يسقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر، ومع ذلك يمشي هذا الشيخ العجوز ويضايق البنات في الطرقات ويغازلهن، ويقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قال راوي الحديث: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
وهذه العقوبة غير عقوبته يوم القيامة عند الله عز وجل، وهذا جزاء كذب الإنسان حين يفتري على غيره، فاستحق أن يستجيب الله عز وجل الدعوة عليه في الدنيا قبل الآخرة.
الغرض من هذا الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا فترة طويلة على هذا الحال من الفقر حتى في مغازيهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
قال هنا في رواية: (ومالنا طعام إلا ورق الحبلة) والحبلة: ثمار شجر السمر، وحولها الأوراق، كانوا يأكلون هذه الأوراق.