أيضاً ينبه في هذا الباب إلى أن المجتهد الذي يسمى مجتهداً من خاصيته النظر في النوازل، وهذا هو الأمر الأعلى للاجتهاد؛ لأن المسائل إما نوازل أو مسائل مسبوقة بقول الفقهاء كالأئمة الأربعة أو غيرهم، فغير النوازل شأنها مقارب، ومهما رجحت فإنك ترجح بالأقرب، لكن خاصية المجتهد هي مسألة النوازل.
ومصطلح النوازل قد يكون مصطلحاً معاصراً، إلا أنه ليس معاصراً على الإطلاق؛ لأنه من المعلوم أن الفقهاء يذكرون مثلاً القنوت في النوازل، لكن المقصود بالمصطلح المعاصر قول بعض الباحثين والناظرين: إن النوازل هي القضايا المستجدة الكلية، فيجعل لها وصف أنها كلية وأنها مستجدة، وبعضهم يأخذها من اشتقاق الكلمة فيقول: النازل كل جديد، فكل جديد أسمية نازلة، ولا مشاحة في الاصطلاح، وسواء قلت: إن النوازل تنقسم إلى جزئية وكلية، فالجزئي من النوازل يمكن أن ينظر فيه فقيه أو ناظر متمكن، مثل بعض الباحثين من الأساتذة الآن وطلاب العلم الباحثين الذي لا يتمتع بشروط المجتهد، ولا يتمتع بشروط الفقيه من سعة العلم بالأقوال، لكنه يمكن أن يبحث في مسألة معينة، فهذا يبحث حتى الجزئي الجديد أو الجزئي النازل، فهذا أمر سهل ولا بأس أن يختلف الأمر عليه ويتردد القول فيه.
لكن النازلة مثل مسألة: الإيجار المنتهي بالتمليك في صورته القائمة في الشركات، هذه ليست نازلة كلية، ولذلك يختلف أهل البحث فيها، فبعضهم يجوزها، وبعضهم يمنعها، وبعضهم يجوزها بشروط، وهذه في نظري أنها من النوازل الجزئية، ولذلك يسوغ حتى للباحثين النظر فيها، ومنهم من أهل الفقه دون رتبة المجتهد، وأمرها سهل، وهي مثل التورق المصرفي التورق، فإن كمسألة موجودة عند الفقهاء، لكن لما دخل في النظم المصرفية اليوم صار له بعض الصور التي يتجاذب الباحثون فيها، وقد يتنازعون فيها، فهذه تعتبر من المسائل النازلة، مع أنني أميل في النازلة إلى مصطلح أعلى، وهو أن النازلة هي الكلية، لكن على هذا الاصطلاح الذي يراه البعض -ولا مشاحة في الاصطلاح- تعتبر من الجزئي، إذا سميته نازلاً فهو من الجزئي من النوازل الذي أمره مقارب، ويقع النظر فيه للباحث المتأهل فضلاً عن المجتهد، إنما خاصية المجتهد هي النظر في النوازل الكلية.
وهذه حقيقة في نظري أنه لا يجوز شرعاً لآحاد طلبة العلم أن يتخوضوا في الأمة بقرارات أو بآراء تجزم بالفعل أو بالترك في نوازل كلية، فإن هذه حق الكبار من أهل العلم الذين لهم وصف الاجتهاد في الجملة، ولا سيما إذا حصلت المجامع وتبادلوا الرأي وما إلى ذلك، فهذا ينبغي أن يكون من فقه هذه الأمة وسنتها، وأن لا نحرك الأدنى من فوقه وهو لم يتأهل إلى الاجتهاد في النوازل الكلية، فإن القول في النوازل الكلية من خاصية المجتهد.
وحينما نقول: إن الناس مقلد وناظر وفقيه ومجتهد، فمن البدهي أن ينبه إلى أنهم يتفاضلون، فالمقلدون ليسوا وجهاً واحداً، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب مثل الأعرابي ليس مثل الإنسان المدني، والناظرون ليسوا درجة واحدة، بل إنه يتفاضل هذا عن هذا، كذلك الفقيه في رتبته الأولى والفقيه في رتبته الثانية، وكذلك المجتهد، فإن المجتهدين ليسوا وجهاً واحداً.
ولكن إذا رجعت إلى فقه الاجتهاد الأول عند السلف أو عند القرون الثلاثة الفاضلة؛ وجدت أن هذا هو مفهوم الاجتهاد: أن من توفرت فيه الأهلية العامة والأهلية الخاصة عند الفعل فهو المجتهد، وأنه ليس في كل المسائل يجتهد، فربما اجتهد في مسائل، وترك الاجتهاد في مسائل أخرى، فمثلاً: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعتبر من المجتهدين، لكن لما وقعت الفتنة رأى أن اجتهاده يقوده إلى الترك، فاعتزل في إبله، وهذا وجه من الاجتهاد، وكذلك تجد أن بعض الصحابة صار إلى شيء وبعضهم صار إلى شيء آخر.
وليس بالضرورة أن المجتهد هو من توفرت فيه شروط الاجتهاد لكل نازلةٍ في لحظتها أو في زمنها، هذا لا يلزم حصوله، وكأن فيه تعذراً في غالب الأحوال.