هذه مسألة فيها قدر من النسبية، لكن الذي انتظم لدى البعض أنه إذا رجح مذهب الحنفية أو مذهب الحنابلة مثلاً في مسألة، وربما رجح أحياناً خلاف قول الجمهور، كان من شرط الترجيح عنده: أنه لا بد أن يجيب إجابة تفصيلية تلغي وتمنع أدلة الأقوال الأخرى، فيقول مثلاً: استدل الحنفية بكذا، وهو الراجح، وأما القول الثاني وهو قول للحنفية والشافعية والماليكة والحنبيلة فهو مرجوح، والجواب عن أدلته كذا وكذا.
مع أنه إذا أردنا أن نجيب عن الدليل بمعنى منع الدليل فلابد في الغالب من التكلف؛ لأن المنع إنما يكون في الأقوال البينة المخالفة، كالشاذ مثلاً، أو في الأقوال العقدية، هذا هو الذي يأتي تحت نظام الإثبات والنفي وما إلى ذلك؛ وذلك لأن القطعي لا يعارض قطعياً، لكن الظني قد يعارض ظنياًَ، وما دام أنك تسلم بهذا المبدأ العقلي الشرعي وهو أن الظن يتعارض مع الظن، فإذا رجحت الظن الأول فإن الذي يلزمك للترجيح هو تأخير الظن الثاني فقط؛ لأنه في النتيجة ستقول: اجتمع ظنيان، ويكفي في الترجيح أن أحدهما أقوى من الآخر، لكن لا يقال: اجتمع دليلان قطعيان متضادان أحدهما أقوى من الآخر، فإن هذا لا يوجد.
إذاً: نظام المنع المطلق والإلغاء هو في الإجماعات والعقائد، أما في الأقوال التي شاعت واشتهرت عند الفقهاء فتعتبر على مبدأ تقديم الأقوى، فيقال مثلاً: إن قول أبي حنيفة أقوى من قول الشافعي، ولا يقال: إن قول الشافعي باطل، بل يقال: إنه قول مرجوح، فإذا كان قول أبي حنيفة في مسألة ما أقوى من قول الشافعي فمعناه: أن دليل أبي حنيفة أقوى من دليل الشافعي، ولا يلزم على هذا لازم فاسد، وهو أن الأدلة متعارضة؛ لأن المقصود هو دراسة هل هذا دليل أو ليس بدليل؟ أما إذا عين أنه دليل بالقطع فيمتنع التعارض كما في الإجماع والعقائد.
وهذه المسألة -وهي مسألة الإجابة عن أدلة الأقوال الأخرى- صار فيها اليوم تشديد وتضييق، ففي بعض الطرق الأكاديمية يشدد في أنه لابد أن يجاب عن كل دليل إجابة مانعة بمعنى الكلمة، مع أن هذا ليس هو شرط الترجيح، هذا شرط السنة والبدعة، والصواب والخطأ، وما خالف الإجماع، أو الشاذ من الأقوال وما إلى ذلك، أما أقوال الأئمة فمن الخطأ أن توضع تحت مثل هذه النظريات الغالية.
وبهذا نكون قد عرفنا منهج عرض الخلاف، وبينا أن التجاهل للأقوال المعتبرة كأقوال الجماهير والأقوال المتكافئة ليس محموداً، وبالمقابل فإن بعث الأقوال الشاذة أو التحديث بالخلاف حيث لا تقتضي المصلحة التحديث به هذا أيضاً ليس حكيماً.