قد يقول قائل: هل يكفي لكون الشخص من أهل الاجتهاد أن يستكمل رتبة الفقيه الثانية فيعرف جمهور الأقوال في المذاهب، مع القدرة العلمية ومع الملكة التي فقه بها مفصل مقاصد الشريعة؟ أم لابد أن يعلم كذلك بمفصل أدلة المسألة التي يجتهد فيها؟
فنقول: إن الحد الذي ذكرناه سابقاً هو شرط الأهلية العامة التي يثبت بها كونه من أهل الاجتهاد، والأهلية تنقسم إلى قسمين: أهلية عامة وأهلية خاصة.
فالأهلية العامة التي من حققها صح أن يعتبر ممن يمكنه الاجتهاد هي: أن يستكمل رتبة الفقيه الثانية العالية مع ملكةٍ فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، هذا نسميه حد الأهلية العامة التي بها يثبت كونه مجتهداً.
والأهلية الخاصة كما إذا أراد أن يجتهد في مسألة معينة، ولتكن من المسائل التي هي من النوازل عند المسلمين ولم تكن موجودة زمن السابقين، كما لو أراد أن ينظر في حكم تجنس المسلم بجنسية غير إسلامية، ومفهوم معنى الجنسية في بعض الدول أو في أكثر الدول أنها تعني نوعاً من الالتزامات المدنية، والالتزامات المدنية خارطتها تبدأ من أشياء أحياناً تتقاطع مع مبادئ وقيم الإسلام.
فمسألة تجنس غير المسلم بجنسية غير إسلامية هذه نازلة، والآن يعيش في العالم الغربي في الدول الغير الإسلامية في أوروبا أو في أمريكا، يعيش الملايين من المسلمين، أو أراد أن يجتهد في مسائل في الاقتصاد مثلاً، أو في تنظيم بعض طرق المشاعر في الحج، كما لو رأى أن منى لا يبنى فيها لو حصلت اضطرارات إلى مسألة البناء، فهذه تعتبر نازلة إذا أرادوا أن يدرسوا البناية أو يدرس المجتهد البناية في منى مثلاً، فهذه قضايا لها نوع من الأصول الكلية.
فنقول: الأهلية الخاصة مفهومها: تأهل المجتهد الذي تمتع بالأهلية العامة للنظر في المسألة المعينة، وهذا له شرط به تتحقق الأهلية الخاصة، فمتى تتحقق الأهلية الخاصة التي بها يجتهد في المسألة المعينة؟ نقول: أن يكون عليماً بتصورها ومفصل دليلها، أي: أن يجمع الأدلة بتفاصيلها في هذه المسألة المعينة في في نازلةٍ كلية من النوازل، فإذا ما جمع مفصل الدليل، مع مفصل التصور عن المسالة، فهذا نقول عنه: إنه حصَّل الأهلية الخاصة، بحكم كونه في الأصل من أهل الأهلية العامة، وهنا له أن يجتهد.
وهب أنه من أهل الأهلية العامة لكنه ما استطاع أن يصل إلى تصور مفصل، فهل له الحق أن يجتهد؟
الجواب: ليس له الحق أن يجتهد، وهب أنه من أهل الأهلية العامة، فهل له أن يجتهد في نازلة كلية بحكم أهليته العامة فقط دون أن يعرف مفصل الدليل في النازلة الخاصة؟ الجواب: لا.
ومن هنا نجد أن كثيراً من الأصوليين المتأخرين لما وضعوا شروط الاجتهاد مع أنها في حقيقتها شروط مشرقة، لكن مثاليتها ربما أنها جاءت من أن هؤلاء أو كثيراً منهم لم يفرقوا بين شرط الأهلية العامة والخاصة، فاشترطوا شرط الأهلية الخاصة في العامة، فاشترطوا أن يكون عالماً بمفصل الأدلة، وعلى هذا لن يوجد أحد يصح أن نقول: إنه تأهل هذا التأهل؛ كبعض فقهاء الكوفة الذين ما عرفوا عند المحدثين كمحدثين، هل كانوا عالمين بالصحيح والضعيف والطرق وما إلى ذلك من هذه الشروط؟ الجواب: لا، ومع ذلك كانوا مجتهدين، ولا أحد يشك أنهم مجتهدون، لكن في الأهلية الخاصة يتحقق هذا الشرط.
وقد يقول قائل: إذا قلنا: إن المجتهد هو من استكمل رتبة الفقيه الثانية، مع امتيازه بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، فكيف يجتهد في المسألة وهو لا يعرف مفصل؟ نقول: هذا هو شرط الأهلية العامة، أما الأهلية الخاصة وهي إذا أراد أن ينظر في نازلةٍ كلية أو في المسألة التي يقصد الاجتهاد فيها، فإن من شرط الأهلية الخاصة لفعل الاجتهاد الخاص: أن يكون عليماً بتصور المسألة وبمفصل دليلها، فإذا اجتمع له مفصل التصور مع مفصل الدليل، مع أهليته السابقة اجتهد، وإذا لم يحصل له ذلك تأخر عن الاجتهاد.
وكأن هذا التفريق بين الأهلية الخاصة والأهلية العامة هو المجيب الوسط عن سؤال: هل الاجتهاد يتجزأ أو لا يتجزأ؟ يتجزأ بمعنى أنه قد يمكنه الاجتهاد في مسألة ولا يمكنه في غيرها، فالاجتهاد يتجزأ، ولا يوجد في التاريخ أنه كلما تعرض نازلة يفصل فيها مباشرة، حتى الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في مسائل، فقد توقف عمر في مسائل، واستشار غيره، واختلف اجتهاده مع اجتهاد أبي بكر، ورجع من اجتهاده إلى اجتهاد أبي بكر، فهذه العوارض من طبيعة المكلفين والعلماء؛ لأنه لا يفصل في كل ما نزل بالقطع واليقين وعدم التردد إلا من اصطفي بالوحي، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولعل هذا التفصيل لهذا التقييد قد أبان الفرق بين الأهلية الخاصة والأهلية العامة، وأنه لا يجوز الاجتهاد بالفعل في المسألة الخاصة إلا إذا تحققت الأهلية الخاصة والأهلية العامة، ومن هنا تصبح نظرية الاجتهاد ليست كلأً مباحاً، ولكنها في الوقت نفسه نظرية ممكنة.
ولعل من التمام هنا أن الاجتهاد كما يقع من المجتهد الواحد فمن الفاضل -وهذه سنة ماضية عند المسلمين- أنه في النوازل الكلية يجتمع جملة من أهل الاجتهاد لتحصيل رأي متوافق، وهذه سنة قائمة اليوم بأشكال لا بأس بها في بعض المجامع الفقهية، ولكن ينبغي أن تقوم أكثر، وقد كانت قائمة في زمن السلف، كفعل عمر رضي الله عنه في مسائل كثيرة لما جمع المهاجرين ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح في نزول الطاعون وقدوم الشام، وفي مسائل كثيرة يجتمع المجتهدون، فهذا وجه فاضل.