ومن هنا إذا قرأت مفهوم المجتهد في القرون الثلاثة الفاضلة الذين كانوا يقولون في النوازل ويقولون في الآراء الفقهية الأولى؛ وجدت أنهم ليسوا على رتبة الفقيه الجامع للفقه أو لدليل الفقه، بل لابد لهم من تفقه في الدين، ومن هنا قلنا: إن المجتهد من استكمل رتبة الفقيه الثانية العالية مع امتيازه بملكة فقه بها مفصل مقاصد الشريعة، وهذه الملكة مركبة من أمرين:
الأمر الأول: المجموع العلمي، والمجموع العلمي يزيد عن القدرة الأولى التي يتمتع بها الناظر، فالمجموع العلمي هذا أرقى؛ فتجد أنه مطلع على التفاسير، مطلع على الموسوعات العلمية، مطلع على الآثار، فعنده اطلاع عام، لكن أن تقول: إنه جامع حافظ عالم متقن في سائر هذه الأبواب، فهذا هو الشرط الذي قد يكون فيه مثالية، لكن لديه مجموعة علمية واسعة أعلى من القدرة الأولى التي تمتع بها الناظر.
الأمر الثاني -وهو الأهم-: التكوين الطبيعي الذي خلقه الله عليه، فإن الله خلق الناس منهم الأحمق، ومنهم الذي ليس بأحمق، ومنهم الذكي ومنهم من دون ذلك، ومنهم الحكيم ومنهم الحليم، ومنهم قليل الصبر ومنهم واسع الصدر، فهذه أمور من أهم ما يؤثر في الفقه كما نبه على ذلك بعض المحققين، كـ ابن حزم وابن تيمية وابن عبد البر ونحوهم، بل للأئمة المتقدمين من الكلام ما يشير إلى ذلك، ولولا استغلال الوقت في الأهم لدخلنا في مثل هذه الآثار.