قال رحمه الله: [السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة].
ولا سيما إذا كانت الدلالة ليست نصاً أو ظاهراً، أما إذا كانت الدلالة ظاهرة بينة فإن هذا لا يتصور، لكن إذا كانت الدلالة دون الصريح ودون الظاهر البين؛ كدلالات المفهوم ونحو ذلك؛ فإن هذه إذا عارضها ما هو أقوى منها تركت، كما لو أن حديثاً ما تضمن دلالة مفهوم، وعارضه دلالة منطوق، فلولا معارضة دلالة المنطوق عند هذا الفقيه لعمل بالمفهوم؛ لأن من أصله: أنه يعمل ببعض المفهوم، لكنه ترك هذا المفهوم في هذا المقام لأن ما هو أقوى منه دلالة قد عارضه.
ومن أمثلته: حديث ابن عمر: (إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث)، فهذا الحديث منطوقه أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، ومفهومه: أنه إن كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث.
قال الفقهاء من الحنابلة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله: (لم يحمل الخبث)، أنه لا يقبل التنجس؛ لأنه متى ما تغير بالنجاسة ولو كان قلتين فأكثر فإنه ينجس بالإجماع، فلما قال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ليس المقصود أنه لا يتنجس مطلقاً؛ بل المقصود: أنه إن وقعت فيه نجاسة ولم يظهر أثر النجاسة فإنه لا يحمل الخبث، حتى ولو علمنا وقوع النجاسة فيه، قالوا: فدل ذلك على أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، وإلا فلا معنى لمفهوم الحديث.
والطرف الآخر من الفقهاء -كـ مالك في رواية المدنيين، وجملة من الفقهاء، بل يذكر ابن تيمية أن هذا هو مذهب الجمهور- يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي سعيد: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، فيجعلون حديث أبي سعيد منطوقاً، قالوا: فتقدم دلالة المنطوق على دلالة المفهوم.
ومن المعلوم أن مثل هذا التنظيم في طرق الاستدلال أمر فاضل وجيد، لكن أنبه إلى أنه ينبغي أن لا يلج فيه إلا صاحب ملكة في التمييز؛ لأنه أحياناً يتصور فيه البعض الانضباط البين في تحصيل النتيجة، مع أنه إذا تأملت في النتيجة وجدت أن هناك بعض العوارض التي انقطعت ولم يتفطن لها الناظر، فمثلاً: مسألة تحية المسجد في أوقات النهي، نجد أن ابن تيمية ينظر فيها بطريقة فيقول: إن أحاديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي المعينة عام مخصوص، وحديث الأمر بتحية المسجد في حديث أبي قتادة في الصحيحين: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) عام محفوظ.
يقول: فالنهي خص بالفريضة، فإن الفريضة تقضى في وقت النهي، وخص عند أكثر الفقهاء بصلاة الجنازة، وخص بركعتي الطواف، فإنه حتى عند الحنابلة -وهو الصحيح من المذهب- أن ركعتي الطواف تفعل ولو في وقت النهي، وإن كان في المذهب أكثر من قول كما هو معروف، فجعل النهي عاماً مخصوصاً، أي خصت منه بعض الصور، وجعل حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) جعله عاماً محفوظاً، والقاعدة الأصولية: أن العام المحفوظ مقدم على العام المخصوص.
والإشكال هنا ليس هو في القاعدة، لكن الإشكال في صدق القاعدة على المثال، والذي أراه أن تطبيق القاعدة على المثال فيه تردد؛ لأن العام في النهي مخصوص، هذا لا جدال فيه، لكن حين يقال: إن حديث أبي قتادة عام محفوظ، فإن هذا استدلال بمحل النزاع، فمن الذي قال: إنه محفوظ؟ والجمهور لا يقولون عنه: إنه محفوظ؛ بل كما قالوا في النهي: يستثنى منه قضاء الفريضة، قالوا في حديث أبي قتادة: يستثنى منه أوقات النهي.
فهو عند الشافعي ورواية عن أحمد وهي اختيار شيخ الإسلام: أنه عام محفوظ، لكن الجمهور يرونه عاماً مخصوصاً، فليس هناك اتفاق فقهي على أن حديث أبي قتادة عام محفوظ.
ومعنى: (عام محفوظ) أي: أنه باقٍ على عمومه، ولو كان عاماً محفوظاً لما وجد في المسألة خلاف؛ لأنه يقال: إن الذين يمنعون صلاة تحية المسجد في أوقات النهي لا يجعلونه عاماً محفوظاً؛ بل يجعلونه عاماً مخصوصاً بغير أوقات النهي.
إذاً: ليس الإشكال هنا في القاعدة، إنما الإشكال هو في تطبيق هذه القاعدة.
ومسألة التطبيقات تعتبر مسألة قابلة للنزاع كثيراً، وقد تكون هناك قاعدة أصولية، وهي من الضوابط لبعض المذاهب، ومع ذلك فليست قاعدة مطردة، كقاعدة: (ما ثبت في الفرض ثبت في النفل)، فإن هذا القاعدة ليست بالضرورة قاعدة مطردة.
والقواعد اللازمة كقاعدة: اليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، فإن هذه القواعد هي الجوامع، ولذلك يقول بعض كبار الشافعية: إن مدار فقه الشافعي على خمس قواعد، وهي: اليقين لا يزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والعادة محكمة، والأمور بمقاصدها.
وأحياناً يفرق بينها وبين ما يسمى: ضوابط فقهية لبعض الفقهاء، وبين مفصل قواعد الأصوليين، مثل هذه الترددات بين الدلالات: العام المحفوظ والعام المخصوص أيهما أقوى؟ ..
إلخ، وهذا في الجملة جيد، لكن لا بد أن يحرر تحريراً منضبطاً.