أهل الكلام وانحرافهم في تعريف العبادة

الاتجاه الثاني: هم أهل الكلام، والكلام -كما يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: هو طريقة مخترعة على غير طريقة المسلمين في عرض العقائد ومناقشتها، فيدخل في ذلك كل طوائف الكلام، مثل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وغيرها من الطوائف التي انتسبت إلى علم الكلام ودافعت عنه.

وعلم الكلام علم مناظرة وحجاج وجدل، وقد ترتب على هذه المناظرات والحجاج والجدل كثير من العقائد التي صنفها أهل الكلام في كتبهم، وهؤلاء انحرفوا في تعريف العبادة، حيث حصروا العبادة في التصديق القلبي والنطق باللسان فقط، والسبب في حصر العبادة في تصديق القلب والنطق باللسان فقط أمران: الأمر الأول: الإرجاء.

والأمر الثاني: تفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع.

فإن عامة أهل الكلام مرجئة، أي: أنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان، فلم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وإنما أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان وحصروا الإيمان المنجي عند الله عز وجل في التصديق القلبي فقط، ثم اختلفوا: هل النطق بالشهادة شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على الإنسان مع احتمال أن يكون ناجياً يوم القيامة، أم أن النطق بالشهادتين شرط في أساس الإيمان من التصديق؟ وذلك على قولين في هذه المسألة، وجمهورهم على أن النطق بالشهادتين شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، والتفريق بين المسلم وغيره إنما يكون بالنطق، وأما عند الله عز وجل فإنه قد ينجو عندهم من جاء بالتصديق القلبي فقط حتى ولو لم ينطق بالشهادتين، وقد نصوا على ذلك في كتبهم، فالذي يراجع مثلاً كتاب المواقف للإيجي يجد هذا الكلام، وكذلك كتاب أصول الدين للبغدادي، وكذلك عامة كتب أهل الكلام، مثل تحفة المريد في شرح جوهرة التوحيد، وتبسيط العقائد الإسلامية، وغيرها من الكتب التي نصوا فيها على أن الإيمان يحصل بمجرد التصديق القلبي فقط.

وإذا كان الإيمان هو مجرد التصديق القلبي فقط، فمعنى هذا أن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، وقد نصوا على هذا، ونص الباقلاني في باب الإنصاف على أن عمل القلب وعمل الجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان، وإذا كان عمل القلب والجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان فمعنى هذا أن من ترك جميع أعمال القلب، وجميع أعمال اللسان، وجميع أعمال الجوارح، فإنه لا يكون كافراً ما دام أنه مسلم، فتصور وجود إنسان لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي، ولا يخاف الله، ولا يحبه، ولا يخشاه، ولا يتوكل عليه، ولا يرجوه، ولا يعمل من الأعمال شيئاً ومع هذا يكون مسلماً؛ لأنه مصدق بالقلب، وأخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان، فلما أخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان ترتب على هذا أنهم جاءوا إلى تفسير (لا إله إلا الله) فقالوا: (لا) معناها النفي، وهذا واضح، و (إلا) معناها الحصر، وهذا واضح، و (الله) هو اسم الجلالة المعروف، وهذا واضح، وبقيت كلمة (إله) فقالوا: الإله معناه: القادر على الخلق، والقادر على الرزق، والقادر على الإبداع، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله.

فيقولون: إن الإنسان إذا اعتقد أنه لا خالق إلا الله فهو مؤمن، وقالوا: لا يمكن أن يعبد المؤمن غير الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015