هذا التعريف له آثار خطيرة على مجتمع المسلمين، وهذه الآثار الخطيرة يمكن أن نوضحها بأمثلة، فمن أمثلة ذلك أن يعبد غير الله عز وجل في ميادين متعددة، مثل ميدان المرأة، فالعلمانيون يرون أنه يجوز للمرأة أن تعيش كما تريد، وأنه لا قوامة للرجل عليها، وأنه لا علاقة للرجل بها؛ لأنه لا علاقة للعبادة بالمرأة، فللمرأة أن تخلع حجابها وسترها، وأن تسافر بغير محرم، وليس للولي سلطان عليها بحيث يحجبها كما يقولون.
وبناء على هذا يقولون: إن المرأة -مثلاً- لو أنها خرجت سافرة متكشفة لتسافر إلى أي مكان، وتعمل ما تريد، وتترك ما تريد، وتعاشر غير زوجها من الرجال إذا كان ذلك بحريتها، وليس فيه قدح في شخصيتها؛ فإن هذا أمر مباح لها، وهو من حقوقها الشخصية.
فالمرأة يمكن أن تعبد غير الله عز وجل، بحيث تتخذ منهجاً في حياتها مخالفاً لمنهج الله سبحانه وتعالى، وتصلي وتصوم ثم تقول: إنها عابدة.
وهذا لا شك في أنه انحراف خطير.
ومن أمثلة ذلك أنهم يقولون: يمكن لإنسان عابد ومسلم أن ينضم إلى حزب شيوعي يرى أن الشيوعية خير في التحاكم إليها من أي شريعة أخرى في الدنيا، أو ينتمي إلى فكر تحرري يرى أن الإنسان حر حرية مطلقة بغير قيود، وهي التي يسمونها الليبرالية، لكن في نفس الوقت لا بد من أن يحافظ على الشعائر التعبدية حتى يكون مسلماً، وإلا فإنه لا يكون مسلماً، وحينئذ جعلوا الإنسان عابداً لغير الله في أغلب حياته.
ويترتب على تعريف العلمانية للعبادة إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في شئون الآخرين، وإلغاء الجهاد في سبيل الله؛ لأن فيه تعدياً على حريات الآخرين، وفيه إيذاء للآخرين.
وهكذا بقية شئون الحياة تبنى على غير منهج الله، فتكون جماعة العلمانيين حينئذ عابدة لغير الله عز وجل في بقية شئونها، وفي نفس الوقت ترى أنها عابدة لله عز وجل بمجرد أداء الشعائر التعبدية، وهذا هو تعريف الإسلام عندهم، فإذا قيل لهم: ما هو الإسلام العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو هذا المسجد الذي يصلى فيه، ويجتمع فيه المسلمون، وفيه تكون اللقيا بين المسلمين يوم الجمعة ونحو ذلك، أما بقية أمور الحياة فلا شأن للإسلام فيها، بل إنهم يقولون: إن الإسلام نظيف، فلا يصلح أن ندخله في جميع شئون الحياة؛ فإن ذلك يجعل الإسلام يتقذر؛ لأن شئون الحياة فيها قذارة، وفيها مصالح، والإسلام مثالي، فلا يصلح أن يكون بهذه الطريقة وبهذا المستوى.
ولهذا يريدون من الإسلام أن يكون مجرد شعائر تعبدية فقط، وهذا مخالف -كما قلت- لأساسيات عظيمة في القرآن والسنة، ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فالذي يتبع أي مذهب من المذاهب الفكرية فهو ضال منحرف، خارج عن دائرة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا المنهج العلماني فيه ادعاء أن هذا الدين ليس كاملاً؛ لأنه لم يأت بأحكام للمرأة، ولم يأت بأحكام للمال، وهذا هو مقتضى التعريف.
ومثل ذلك آيات كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهذه الآية تدل على أن حياة الإنسان كلها خاضعة لمنهج الله سبحانه وتعالى، ويجب أن تكون وفق منهج الله سبحانه وتعالى، وإذا تصور الإنسان أنه يمكن لجوانب من حياته أن تخرج عن منهج الله فهو مخالف لنص الآية؛ لأنه تعالى قال: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162]، أي: كل أحوالي {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، ومخالف -أيضاً- لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صبغ الحياة كلها بالإسلام، وليس هناك ميدان أبداً من الميادين لم يصبغه هذا الدين بالإسلام، وليس هناك ميدان من الميادين أبداً لم يكن فيه شرع لله عز وجل.