فتوصل بما صوره من حاله عند الناس إلى أن طلب بدماء إخوته. وحديثه مشهور أيضاً. وكلام المتلمس بعثٌ وتحضيضٌ على دفع الضيم، وركوب الإباء من التزام العار، فلذلك أخذ يذكر بحال من استضعف. فلم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه من أعدائه.
وقوله: ما حز أنفه ما زائدة. وارتفع نعامة على أنه بدلٌ من قوله بيهس. وموضع كيف نصبٌ على أنه مفعول تبين، والعامل في كيف يلبس تبين. كأنه قال: تبين في أثوابه يلبس أي لبسةٍ.
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
قوله ما رأوا ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ، كأنه قال: وما الناس إلا رؤيةٌ وتحدث، أي اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم البائدة؛ فهو كقولك: ما زيدٌ إلا ذو أكلٌ وشرب، فيكون إما على حذف المضاف، كأنه قال: ما زيدٌ إلا ذو أكلٍ وشربٍ؛ وإما أن يكون لكثرتهما منه، وولوعه بهما، كأنه نفس الأكل والشرب. فيقول: ما الناس إلا ذوو الاعتبار بما يشاهدونه أو يسمعونه من أخبار أسلافهم، فيتيقنون بأنه لا بد من الفناء، فلا ينبغي لأحد أن يحتمل ضيماً أو يصبر على مكروه، وما العجز إلا أن يظلموا ويساموا الخسف فيرضوا به، وينطووا عليه كاظمين وساكنين. ويجوز أن يريد بقوله وما الناس: وما حزم الناس، فحذف المضاف، ويكون حينئذ ما رأوا في موضع الظرف، كأنه أراد: ما حزمهم إلا مدة رؤيتهم وتحدثهم، أي إذا اعتبروا بالأمرين، ويكون هذا في باب الإخبار كقولهم: الهلال الليلة، على تقدير حدوث الهلال أو طلوعه الليلة. ويكون الدلالة على هذا الوجه أنه طابقه بقوله وما العجز.
ألم تر أن الجون أصبح راسياً ... تطيف به الأيام ما يتأيس
الجون: حصن اليمامة، ويقال إنه من مصانع طسمٍ وجديس. فيقول: لا توعدونا فإن حصننا حصينٌ لا يوصل إليه، ولا يستباح حماه. ومعنى تطيف به الأيام تلم به الأحداث وتنوبه النوائب فلا يطيع. وقوله لا يتأيس أي لا يلين. وأنشد الأصمعي:
إن تك جلمود صخرٍ لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع