فأشفقوا على صاحبهم، وتركوا ما كانوا عليه، ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا إلى «بني شفرة» و «عبيد الله بن الحسن» يصلي عندهم، فلما فرغ من صلاته قالوا: قد جئناك في أمر دعتنا إليه ضرورة وشرحوا له خبرهم، وسألوه الجواب، فقال: إن التي ناولتني فرددتها، عنى بها الخمر الممزوجة بالماء، ثم قال من بعد: كلتاهما حلب العصير، يريد الخمر المتحلبة من العنب والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه «بالمعصرات» في قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا}.
قال الشيخ الأوحد العالم الرئيس «أبو محمد» هذا ما فسره «عبيد الله بن الحسن القاضي»، وكان ممن يرمق بالمهابة ولا يسمح بالدعابة.
وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى كشف سره وتبيان نكته. أما قوله: «إن التي ناولتني فرددتها قتلت. قتلت» فإنه خاطب به الساقي، الذي كان ناوله كأسا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فأما قول «حسان بن ثابت»:
(كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل)
هو من قصيدة مدح بها «آل جفنة» ملوك الشام قبل الإسلام، وأكثر مدائحه فيهم، وأولها:
(أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالنصيح فحومل)
ومنها:
(لله در عصابة نادمتهم ... يوما «بجلق» في الزمان الأول)
(أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر «ابن مارية» الجواد المفضل)
(يسقون من ورد البريض عليهم ... بردي يصفق بالرحيق السلسل)
(يسقون درياق المدام ولم يكن ... يغدو ولائدهم بنقف الحنظل)
(بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول)
(يغشون حتى ما نهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل)