الأمة توافق بعضها في بعض مدارك، ولا توافق في البعض الآخر، فلا جرم صح التفريق فيما قالوا فيه بعدم الفصل إذا اختلفت المدارك.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إن عينوا الحكم وقالوا لا نفصل حرم الفصل، وإن لم يعينوا ولكن أجمعوا عليه مجملاً فلا يعلم تفصيله إلاّ بدليل غير الإجماع، فإن دل الدليل على أنهم أرادوا معيناً تعين أو أرادوا العموم تعين العموم، وإن لم يدل دليل حصل العموم أيضاً، فإن ترك البيان مع الإجمال دليل على العموم، ومتى كان مدرك أحد الصنفين مختلفاً أو جاز أن يكون مختلفاً جاز التفصيل بين المسألتين.
وإذا اختلف العصر الأوّل على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر، وفصل الإمام فقال إن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع وإلا فلا، كما قيل للجد كلّ المال، وقيل يقاسم الأخ، فالقول يجعل المال كله للأخ مناقض للأول، وإذا أجمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما.
هذه هي التي تقدمت، وقد تقدم بسطها غير أني قدمتها في أول الكلام مجملة، ثم ذكرتها مفصلة، والفرق بين قولهم لا يجوز إحداث القول الثالث، وبين قولهم لا يجوز الفصل بين مسألتين، أن القول الثالث يكون في الفعل الواحد، كما تقول في سباع الوحوش قال بعضهم هي حرام، وقال بعضهم ليس بحرام، فالقول بأن بعض السابع حرام وبعضها
ليس بحرام خارق للإجماع فيكون باطلاً، وعدم الفصل في مسألتين مثل توريث ذوي الأرحام كما تقدم في تقريره.
ويجوز حصول الاتفاق بين الاختلاف في العصر الواحد خلافاً للصيرفي وفي العصر الثاني لنا والشافعية، والحنفية في قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق فيمتنع الاتفاق أو هو مشروط بعدم الاتفاق وهو الصحيح.