جاء في شأن هذا اليوم ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد وعندي جاريتان للأنصار يغنين بغناء يوم بعاث، ويضربن على الكربال) والكِربال بالكاف المكسورة، وبعض الناس يحرفها فيقول: (الغُربال) ، والكربال: هو الدف الذي لا شناشين فيه، فإذا وضعت فيه شناشين سمي المزهر.
قالت: (فدخل أبو بكر علي، فأخذ يلهزني ويعاتبني: أمزامير من مزامير الشيطان في بيت رسول الله؟) .
والجواري هنا إما بمعنى مملوكات، أو بمعنى: بنات صغار، فإذا بلغت الجارية تسعاً فهي امرأة، وتطلق الجارية على الفتاة الصغيرة دون البلوغ.
وقالت: (فدخل رسول الله فتمدد على فراشه، وغطى وجهه، واستدار عنا) ، وهنا يقال: أسمع ذلك من الجاريتين أم لا؟ أسمع الكربال يضرب عليه أم لا؟ ولكنه سكت صلى الله عليه وسلم، فدخل أبو بكر فعاتب عائشة، فكشف وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر، إن هذا عيدنا) تقول رضي الله تعالى عنها: فلما غفل غمزت إليهما أن انصرفا.
فهاتان جاريتان تدخلان على عائشة تغنيان عندها، وفي بعض الروايات: (وليستا بمغنيتين) أي: تحكيان الغناء، وليستا محترفتين للغناء؛ وهذا مثلما يقع في البيوت، فالذي عنده بنات أو حفيدات يوم العيد أو في مناسبة أخرى إذا لم يكن عندهم هذا الكربال يأتون بغيره يدقون عليه ويغنون، وليس هذا من باب احتراف الغناء، ولكن محاكاةً وفرحة وبهجة.
فالجاريتان أتتا إلى بيت رسول الله فاستقبلتهما عائشة، وفسحت لهما، فيدخل رسول الله ويشاهد هذا الحدث، وليس هو بالراغب في سماعه، وليس بالممانع من وقوعه، فنام وغطى وجهه، فتغطيته لوجهه دليل على أنه مترفع عن مثل هذا، وكونه على فراشه يسمع دليل على إقراره، أي: أقر ما يكره مما لا يتناسب مع مقام النبوة، ولكنه بحاجة إلى هؤلاء الناس، فأباحه لهذا ولم ينكر عليهم.
فأنت -أيها الداعي- كن حكيماً فراعِ شعور الناس، وراع المناسبات، وإذا كان هناك ما تكرهه وأنت مترفع عنه في درجة عالية، فانظر إلى الآخرين، وليكن ذلك بحكمة، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يراع ما راعاه رسول الله، فأنكر المنكر في بيت رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له العلة: (إنه يوم عيدنا ... ) وفي رواية ساقها ابن حجر في فتح الباري أنه قال: (يا أبا بكر! دعهما؛ لتعلم يهود أن ديننا دين السماحة) ، فليس هناك تشدد وغلو إلى أقصى حد، وكذلك ليس هناك انسياب وضياع، فهي مراعاة ليوم واحد في السنة، وليس هناك منكر، وليستا مغنيتين محترفتي الغناء، وإنما هو لعب أطفال في بيت من البيوت، وهذا أمر يغتفر ويسامح فيه.
وزد على هذا ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل الأحباش المسجد يلعبون بحرابهم.
والأحباش: جمع حبشي، من أهل الحبشة، وأهل الحبشة يحبون الطرب، وكل الأفارقة يحبون الطرب، فأخذوا يلعبون في المسجد بحرابهم.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إما سألني وإما طلبته، وجاء في بعض الروايات قال: (أتحبين أن تري يا عائشة، فقامت وقام معها رسول الله، تقول: وقف خدي على خده يسترني، وأنا أنظر، ثم يقول: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني أرفدة) وهذا لقبهم، ومعنى (دونكم) انتظروا واصبروا.
فإذاً: سمح لهم رسول الله، ثم سمح لزوجه أن تنظر إليهم، وقد دعا هذا إلى استغراب شراح الحديث، إذ كيف تنظر إلى الأجانب، وكيف يرضى لها بذلك صلى الله عليه وسلم، والجواب: أن عائشة في ذلك الوقت لم تبلغ خمس عشرة سنة؛ لأنها عقد عليها صلى الله عليه وسلم وعمرها سبع سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات، في أول سنة أو ثاني سنة من الهجرة، وهذا اللعب كان سنة خمس، فلم تكن قد بلغت.
وهذا كله لا يلزم ما دام أن الرسول معها وهو يسترها، وسمح لها أن تنظر، فلا حاجة إلى ذلك، فما المانع -لو وجد مثل هذا- أن يسمح الرجال للنساء ما دام هناك ستر وليس هناك اختلاط، فهي في بيتها وفي حجرتها، وهم في المسجد.