ففي مقدمة سورة الجمعة يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1] ، وسورة الجمعة قبلها سورة الصف، وافتتحت سورة الصف بـ (سبح) ، وهو فعلٌ ماض، وفي أول الجمعة (يسبح) ، وهو فعل مضارع، وهذا الفعل -كما أشرنا إلى ذلك في تتمة أضواء البيان- جاء في القرآن الكريم بكل تصاريفه، فجاء بالماضي وبالمضارع وبالأمر كقوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى:1] ، وبالمصدر، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] ، فكل تصاريف هذه المادة جاءت في القرآن الكريم تنزيهاً لله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في هاتين السورتين -أي الجمعة والصف- ما يدل على عموم وشمول هذه المادة لجميع الكائنات، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وجاء التفصيل كقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13] ، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ، فجاء في حق الإنسان والملائكة والرعد والجماد وغير ذلك، وهذا لعظيم شأنه سبحانه.
والتسبيح هو التنزيه، وقد أشرنا إلى ذلك في مدلول قول: (سبحان الله والحمد لله) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيهما، قوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده) ؛ لأنهما تجمعان طرفي التنزيه وكمال التوحيد، فـ (سبحان) تنزيه لله عن كل نقص، وعن كل ما لا يليق بجلاله؛ لأن مادة (س ب ح) إنما وضعت للسباحة في الماء، والسابح في الماء يبذل جهده لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح ربه، فهو يسبح في ملكوت الله، وفي علم الله، وفي مقدوره واعتقاده لينجو من هلكة الشرك بأن ينسب إلى الله ما لا يليق به.
والحمد -كما قالوا-: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته، وليس لما يصدر عنه من نعم وغير ذلك، فجمع قوله: (سبحان الله وبحمده) طرفي التوحيد والكمال لله تعالى.
وهنا يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجمعة:1] ، و (ما) -كما يقال - تكون لغير العاقل، وتكون للجماد، ولا تستعمل للعاقل إلا بالتنزيل، وهنا إثبات تسبيح عالم السماء وعالم الأرض لله الملك القدوس.