صلح الإنكار هو أن يدعي إنسانٌ على إنسان شيئاً فينكره.
وتحقيق الأمر في هذه المسألة: أن بعض العلماء نفى صلح الإنكار بالكلية كـ الشافعي رحمه الله، والبعض أجازه؛ ولكن فصل بعض العلماء وقال: لا ينبغي أن يقال: صلح الإنكار ممنوع مطلقاً، أو صلح الإنكار جائز مطلقاً.
قالوا: إذا كان المدعى عليه بالدين يعلم حقيقة الدين؛ ولكن أنكره بغية أن يصالحه الدائن على شيء منه، فصالَح مدينٌ له بإرْدَبٍّ من التمر، فقال: ليس لك عندي شيء، فذهب وجاء، وادعى عليه، وما عنده بينة، وما حصَّل شيئاً، فأراد الدائن أن يصالح على بعض حقه لينقذ بعض حقه، فقال: أصالحك على نصف الإرْدَبِّ بقيمة خمسمائة ريال.
ففي هذه الحالة الدائن له حق أن يكتفي بنصف حقه، والمدين ليس له حق أن يصالح على أقل من دينه؛ لأنه يعترف به في قرارة نفسه، وكان ينبغي أن يعترف به صراحةً، ويطلب من الدائن أن يخفف عنه أو أن يسامحه، أما أن يجحده بغية أن يصالحه صاحب الحق على جزء منه؛ فهذا لا يجوز.
وقد يدعي من ليس له شيء على رجل يستحي من المثول في مجالس القضاة، ويستحي أن يُعرض عليه اليمين، ويتورع أن يحلف يميناً ولو كان صادقاً، فذهب إلى القاضي وادعى عليه: أن لي عليه ألف ريال.
فالقاضي يستدعيه، فيقول: لا، أبداً، هذا ليس بيني وبينه معاملة، فيقول القاضي للمدعي: البينة، فيقول: ما عندي بينة، فيقول للمدعى عليه: احلف، وهذا الذي يريد المدعي أن يصل إليه، ويعلم أن المدعى عليه من مروءته وأمانته وزهده أنه لن يحلف، فحينئذٍ يضطر المدعى عليه أن يصالح المدعي، فهل صالَحه على الدين؟ لا.
بل صالحه على الدعوى ليترك دعواه، ويفك نفسه من هذا.
فحينئذٍ هذا المدعي محق أم ظالم؟ ظالم، وأخذ بصلح الإنكار مال إنسان بغير طيب نفس؛ ولهذا مالك رحمه الله يقول: لا ينبغي أن تُسمع كل دعوى، وأن تكون القضية دائماً، البينة اليمين لا.
بل يُنظر هل بين المدعي والمدعى عليه ما يشبه دعواه؟ فإن كان المدعي الذي ادعى على إنسان ليس بينه وبين المدعى عليه لقاء ولا معاملة ولا أي شيء، ولا يشبه أن يحتاج ويستدين منه؛ فلا تسمع دعواه، مثلاً: إنسانٌ رأى رجلاً ماشياً صاحب هيئة ومال وكذا؛ فمسكه وقال له: هاتِ حقي.
- وما حقك؟ - الدين الذي لي عندك.
- أيُّ دين؟! أنا ما رأيتُك، أنا ما أعرفك! - أبداً، لي عندك ألف ريال.
ورفع أمره إلى المحكمة، فـ مالك هنا يقول: من أين هذا الرجل؟ - والله! من أفريقيا من هناك من آخر الدنيا، من داكار.
- وهذا من أين؟ - هذا من الشام.
- وما الذي جمع الشامي على الأفريقي؟! فـ مالك يقول: أولاً نثبت أن هناك ما يشبه حقيقة الدعوى، فيسأله القاضي: هل لقيته قبل ذلك؟ هل سافر إلى الشام؟ هل سافرت أنت إلى داكار؟ فإذا لم يكن هناك ما يشبه الخلطة بينهما فهل يكون لهذه الدعوى محل؟ لا محل لها.
مثال آخر: إنسان فقير في المدينة ادعى على تاجر معروف صاحب استيراد وتصدير ومعارض جملة، وقدم عريضة في المحكمة بأن لي عليه عشرة آلاف ريال، والمدعي بعشرة آلاف لا يملك إلا قوت يومه، فالقاضي يجب أن ينظر، هل هناك ما يشبه أن هذا الفقير المسكين امتلك عشرة آلاف، وهذا التاجر المصدِّر المورِّد صاحب الرصيد في البنوك، هل احتاج الغني إلى هذا في عشرة آلاف؟ إذا كان هناك ما يشبه هذا سمع الدعوى، وإذا لم يكن هناك ما يشبه من ثبوت الخلطة فـ مالك يقول: تُرفض الدعوى ولا تُسمع.
فإذا القاضي ما رأى هذه الناحية، وقال: عندي مدَّعٍ، والمدعي عليه البينة، والمنكر عليه اليمين، فقال: كونك غنياً، وكون هذا فقيراً، أنا لا دخل لي بهذا، عندك بينة؟ - ما عندي.
- ماذا تقول؟ - أريد يمين المدعى عليه.
والمدعى عليه لو ادعى عليه بمليون يريد أن يدفعه، فهو متورِّع عن اليمين، وكما قدمنا عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه امتنع أن يحلف وهو محق؛ مخافة أن يصادف قدَر من الله، فيقال: أصيب بكذا لأنه حلف.
فهذا قد لا يحلف، وبراءة لعرضه تحمَّل الدين وهو ينكره، ودفعه مفاداةً لليمين.
فالصلح على إنكار: إن كان المدعى عليه يعلم حقيقة الدين وينكره، واضطر صاحب الحق أن يصالح عليه، فالمدعى عليه آثم لإنكاره، وما سقط من الدين بسبب مصالحة المدعي الدائن لا يسقط عند الله.
وهناك بعض الصور: قد يضطر المدعي أن يصالِح إنقاذاً للبعض من الكل، وينص على هذا الفقهاء في ناظر الوقف، والوصي على الأيتام، هناك عقار وقف، وبجواره رجل ظالم معتد ذو سلطان وجاه، فتعدى على أرض الوقف، فأخذها، فالناظر مطالَب بحفظ ملك الوقف، فحاول معه، فقال له: اذهب ما لك شيء! - يا ابن الحلال، هذا وقف لله، هذا صفته، هذا فيه أيتام، هذا فيه أرامل، هذا هذا هذا - فقال: لا دخل لي، اذهب.
- فقال له: أقول لك -يا شيخ- أصالحك على النصف، ويكفيك النصف واترك لنا النصف.
أو أن المدعي قال: أنا أعطيك النصف، واترك دعواك، واصرف الموضوع.
فهل من حقه أن يقبل هذا الصلح أو يترك؟ يقبل؛ لأنه إنقاذ للبعض من الكل.
وإذا صالح ناظر الوقف على نصف العين، فهل النصف الباقي يحل للمعتدي أو أنه حرام في يده؟ حرام في يده.
إذاً: الصلح على الإنكار: إن كان المدعى عليه لا يعلم بالدعوى، وأنكر لعدم علمه أو نسي فلا مانع من ذلك، وإن كان أنكر وهو يعلم فهو جاحد، وهو آثم، وما بقي بعد الصلح فهو في ذمته.
وكذلك المدعي، إذا ادعى بشيء يعلم أنه لا حق له فيه، وصالحه عليه المدعى عليه، فأخذ شيئاً في هذا الصلح؛ فأخذه إياه غير جائز، وهو آثم بهذا الأخذ، والذي دفع مسكينٌ مضطر يريد أن يحمي ماله.