ونحن الآن نتكلم عن تحريم المدينة وليس عن تعداد فضائلها وخصائصها، فقد عدد بعض العلماء خصائص المدينة وأبلغها إلى حوالي مائة خصيصة، وهذا أمر يطول بيانه، لكن يهمنا تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم آمن) ، فتسميته صلى الله عليه وسلم المدينة حرماً يرد على بعض العلماء المتأخرين الذين يقولون: لا يسمى حرماً إلا مكة، ولكن هذا صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرم آمن، ثم بين صلى الله عليه وسلم حكم الحرم المدني كما بين حكم الحرم المكي بأنه لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد، فذكر حرمة الخلاء والشجر في حرم المدينة إلا لحاجة علف دابته أو خشبه، فإن ذلك لا بأس به للحاجة، ومع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو أن يقطع شجرها إلا لحاجة، أو أن ينفر صيدها، اتفق العلماء -إلا ما جاء عن بعض المالكية- أن من قتل بها صيداً فإنه لا جزاء عليه كجزاء صيد مكة، لكنه آثم بانتهاكه حرمة الحرم، ويعزر من جانب ولي الأمر، بل قال بعض العلماء: يسلب، أي: تؤخذ ثيابه، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى غلاماً يصطاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه، فأبى أهله وطلبوا رد الثياب إليه، فقال: (حاشا، طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أردها عليكم، إن شئتم أعطيتكم قيمتها فعلت، أما هي فلا) .
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بأهلها خيراً، وبين أن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار كما يذاب الرصاص، أو أذابه الله كما يذاب الملح في الماء.
ثم حث صلى الله عليه وسلم وحذر من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإحداث الحدث يراد به عند العلماء: الابتداع، أي: أن يبتدع في دين الله في المدينة ما ليس من دين الله، أو يبتدع أمراً لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا في ذلك فإننا نجد أن حرمة المدينة وتعظيم شأنها والحفاظ على أمر الدين فيها من ضروريات الدين؛ لأن مكة بحرمها كانت وما زالت مأوى المؤمنين؛ وهي دار السلم والسلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولما ضيق على المسلمين في بادئ الأمر واضطروا إلى الخروج إلى مكان آمن كانت المدينة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المدينة أصبحت المدينة آنذاك عوضاً لهم عن مكة، وأصبحت العاصمة للعالم الإسلامي كله، يفد إليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان لزاماً أن يبقى الدين كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتى آتٍ من الآفاق وأراد أن يأخذ أحكام الدين وجدها نقية بعيدة عن أي الشوائب والعلائق.
وهكذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لكم تبع، ستفتح الأمصار، ويأتي إليكم رجال يطلبون العلم، فأقرئوهم وعلموهم) .
وقد اعتبر مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة، وقد استدل به على أعمال عديدة لم يأت بها نص من الكتاب ولا من السنة، ولكن يستدل بمجرد عمل أهل المدينة -أي: عمل علمائها- ويقول: إنهم يأخذون ذلك خلفاً عن سلف، ويأخذونه كابراً عن كابر.
وقد جاء تطبيقاً لذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله لما جاء مع هارون الرشيد إلى المدينة ولقي مالكاً رحمه الله، تذاكرا العلم وتدارسا في المدينة، وسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فقال أبو يوسف: بل هو عندنا ثمانية أرطال، فقال مالك لجلسائه: من كان عنده صاع يؤدي به زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به غداً، ومن الغد اجتمعت عند مالك ما يقارب خمسين صاعاً، وكلهم يخبر عن أبيه أو عن أمه عن جده عن جدته أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو يوسف: فنظرتها فإذا بها كلها سواء، فأخذت واحداً منها وذهبت به إلى السوق، فعايرته بعدس الماش فإذا هو خمسة أرطال وثلث، فلما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث، قالوا: خالفت شيخ القوم -أي: أبا حنيفة رحمه الله- فقال: وجدت أمراً لم أجد له مدفعاً، أي: منقولاً عن ذاك العدد الكبير.
فكان عمل أهل المدينة وما ينقلونه عن سلفهم حجة، وكان ذلك عملاً لـ مالك، وقد أحصي ما في موطأ مالك مما هو مسند لعمل أهل المدينة دون أن يورد عليه آية أو حديثاً أو قول صحابي أو خليفة فوجد أنه يزيد على ثلاثمائة وثلاث عشرة مسألة، وقد قورنت هذه المسائل مع ما عند الأئمة الثلاثة فما اختلفوا مع مالك إلا في مسألة واحدة انفرد بها ولم يوافقه غيره عليها، وأما بقية المسائل فقد شاركه فيها غيره، فقد يتفق معه إما الثلاثة أو اثنان أو واحد، فكان ذخيرة للمسلمين أوردها مالك في موطئه ليس عليها نص من آية أو حديث، ولا يتأتى لإمام غيره أن يحصل عليها؛ لأنه أخذها مباشرة عن أهل المدينة المعاصرين له، وهم أخذوها عن أسلافهم فيما قبل.
إذاً: المدينة حرم آمن، وينبغي أن تظل بحرمتها إلى يوم القيامة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على تلك الحرمة، وحذر وزجر ونهى من إحداث البدع فيها أو إيواء محدث.
ثم حث على الإقامة فيها، بل والموت فيها لمن استطاع، بل قال: (من استطاع أن يتخذ له أصلاً في المدينة فليفعل) أي: من سكن أو زراعة أو غير ذلك، وقال: (من مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) ، قالوا: (شهيداً) فيمن حضره، و (شفيعاً) فيمن كان بعده.
ثم يذكر العلماء من الفضائل العديدة: أن أهل البقيع في المدينة أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة بعد القبور الثلاثة المشرفة، وهكذا دعوته صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة، ولأجل هذا ذكر المؤلف رحمه الله حرم المدينة وحرمتها بجوار ذكره لحرم مكة وحرمتها، وقد أشرنا إلى أن أحكام حرم المدينة كأحكام حرم مكة سواء بسواء، إلا أنه ليس فيه جزاء كجزاء مكة، إلا ما جاء عن بعض المالكية أنه رأى في حرم المدينة جزاء كجزاء حرم مكة.
وهناك حرم ثالث لا يطلق إلا بالقيد وهو: وادي وج، وهو وادٍ في الطائف، فيرى الإمام الشافعي رحمه الله أنه يطلق عليه حرم ولكن بملازمة الإضافة، فيحرم صيده، وله أحكامه المعلومة.