حدود حرم المدينة بحث قديم متجدد، وقد أطال العلماء البحث فيه، ولكن كل ما يطرأ من بحث حول حدود الحرم فإنما هو لتحقيق المناط ولتبيين المراد، وإلا فقد أجمع المسلمون على مسميات حدود الحرم، والمجمع عليه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها) واللابتان: الحرتان، واللابة: الحرة، أي: الحجارة السوداء، والمدينة محاطة باللابتين الشرقية والغربية، وهي في الحقيقة حرة واحدة لكن لها طرفان: طرف في المشرق وطرف في المغرب، وجنوب الحرة قد يمتد ويوغل في الامتداد حتى يصل إلى المهد أو يزيد أو ينقص، فهي مدورة حول المدينة.
يقول النووي رحمه الله: إن الحد هنا داخل في المحدود، أي: أن اللابتين داخلتان في مسمى الحرم، والحرتان طرفان أو حدان للحرم شرقاً وغرباً، فالطرف الشرقي يمتد من وادي قناة وينزل إلى مسامتة ما يقرب من وسط جبل أحد، والطرف الغربي يمتد وينزل إلى قريب من طريق سلطانة إلى جبل أبي عبيد، وهو خلف المعهد المهني بقليل.
أما من الشمال والجنوب فقد جاء في الصحيحين: (المدينة من عير إلى ثور) وجبل عير موجود في منطقة ذي الحليفة، ولم يختلف أحد من المؤرخين في موضعه، وإن خالف بعض من كتب في ذلك ونفى أن يكون بالمدينة جبل يقال له: عير، أو جبل يقال له: ثور، وحمل الحديث على تقدير المسافة بين عير وثور بمكة، ولكن التحقيق الذي عليه العلماء وتناقله الناس خلفاً عن سلف: أنه يوجد في المدينة جبلان: جبل عير، وجبل ثور، وعير يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من ذي الحليفة، أي: من مسجد الميقات، وهو مشهور لأهل المدينة جميعاً، فهذا حد الحرم من الجنوب، أما حده من الشمال فهو جبل ثور، وقد اختلف في مسمى هذا الجبل حتى قال البعض -كما ذكرنا-: لا يوجد في المدينة جبل يسمى: جبل ثور، ولكن المحققين أثبتوا ذلك وتناقلوه خلفاً عن سلف، وحقق المطري في تاريخه للمدينة وجود هذا الجبل، وقال: قد حققته بالمشاهدة، وكبار السن الموجودون الآن في تلك المنطقة يتناقلون أخباره وهو الذي يسمى: جبل الدقاقات، وهو يقع شمال الخط الجديد الذي يمر به، وبينه وبين الخط مسافة ميل، ويقول المؤرخون: إنه يقع شمال جبل أحد إلى الغرب، وهو أحمر مدور، وهو فعلاً على ما قالوا، وهو حد الحرم من الشمال، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات: (وجبل وعيرة) وجبل وعيرة: هو الجبل الذي بعد محطة الكهرباء الجديدة التي على خط المطار، وهو مسامت لجبل ثور من وراء أحد بالفعل.
وعلى هذا: فإن حرم المدينة الذي يحرم فيه الصيد إنما هو ما بين هذه المعالم الأربعة: الحرتان من الشرق والغرب، وعير وثور من الشمال والجنوب، وقد جاء في حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدد ذلك بالمسافة: بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف بالحساب الحديث، وعلى هذا يكون حدود الحرم إن اعتبرناه دائرة فيكون قطر الدائرة بريدان: بريد من الشرق وبريد من الغرب، وبريد من الشمال وبريد من الجنوب.
وبعضهم يقول: إن حدود الحرم من الجنوب الشرقي من البيداء وذات الجيش، والبيداء: هي التي يصعد إليها الحاج من ذي الحليفة، وقد قدم معنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل: أهل حينما سلم من صلاته في مصلاه، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحلته، ومن قائل: أهل بالبيداء، والبيداء ملاصقة لذي الحليفة، وبقربها أيضاً ذات الجيش، ومن جهة الشمال الحفياء، والحفياء تمتد خلف جبل ثور إلى مسافة ليست بعيدة، وأحكم الأقوال في ذلك والمتفق عليه بلا نزاع هو: بريد في بريد في بريد.