ولماذا خصت تلك المساجد الثلاث بجواز شد الرحال إليها ليعتكف فيها؟ قد سبق أن نبهنا أن طالب العلم إذا وجد متعددات في حديث واحد فعليه أن يطلب الرابط والجامع والمناسبة بين جمع هذه المتعددات في سياق واحد، ومثلنا بحديث المنبر والتأمين عليه ثلاث مرات، حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الدرجة الثالثة فقال: آمين) ، وكان منبره صلى الله عليه وسلم في زمنه من ثلاث درجات، قيل: كان يصعد على الأولى وتستقر قدماه الشريفتان على الوسطى، ويجلس على الثالثة، وربما وقف على الثالثة وأدى بعض الأعمال ليري الناس كيف يفعلون، كما جاء أنه صعد عليه وصلى ركعتين فاستقبل القبلة وكبر وقرأ وركع ثم رفع، ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد إلى الركعة الثانية ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وموضوع التأمين ثلاث مرات: (قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن ولا نعلم على ما أمنت، قال: نعم، أتاني جبريل آنفاً وقال: يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ولما صعدت الثانية قال: يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ثم قال: من أدرك رمضان وخرج عنه ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين) فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد في حديث واحد في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث: ففي بر الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما ولم يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في الحديث: (لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان على خروجي.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى منه، ومع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدم بر الوالدين عليه.
وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما لأنهما السبب في وجود الإنسان من العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات تلقح وتنتج، وابن آدم أيضاً يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية كما في قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فحق الله أولاً ثم حق الوالدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله.
إذاً: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم فللرسول على المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه بالله ويسعده في الآخرة.
ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض، وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله في رمضان ولم يغفر له فيه ولم ينل حظاً منه فمتى ينال حظاً؟! إذاً: هذه الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد.
ونأتي إلى ذكر هذه المساجد الثلاثة: فواحد في مكة، وواحد في المدينة، وواحد في بيت المقدس، والذي في مكة هو أول بيت وضع للناس، والذي في بيت المقدس وضع بعده بأربعين سنة، والذي بالمدينة وضع بعدهما بآلاف السنين، فما الذي ربط بينها رغم التباعد فيما بينها؟! وإذا تأملنا أيضاً نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بينها في جانب آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فصارت صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وصلاة في مسجد المدينة بألف، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، ووجدنا أن المسجد الأقصى قد ارتبط بالمسجد الحرام قبل المسجد النبوي في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] إذاً: هذه المساجد الثلاثة اجتمعت لها تلك الفضيلة، وهي مضاعفة الصلاة فيها، فتكون أيضاً مشتركة في مضاعفة الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف عبادة، فما دامت تتفاضل الصلوات فيها على سائر مساجد الدنيا فكذلك الاعتكاف.