ثم يأتي السؤال الآخر: وما السبب في أن الصلاة تضاعفت فيها بمائة ألف، وألف، وخمسمائة، والأرض كلها مسجد وطهور؟ نجد أيضاً أن في تاريخ كل منها ارتباطاً وثيقاً وصفات معينة لم يشاركها -أي: الثلاثة- غيرها من مساجد العالم كله، أولاً: إن اختيار المكان لها ما جاء عفواً، بل كان اختيارها في هذه الأماكن من الله، ثانياً: إن إقامتها وبناءها جاء عن طريق رسل الله وليس عامة الناس.
إذاً: ما دامت قد اشتركت في كيانها ووجودها في تلك المبادئ فبينها اشتراك أساسي، أما تعيين المكان فقد جاء في حق المسجد الحرام قوله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] والبيت كان قد انطمس، وزمزم كانت قد ردمت، ولم يبق في مكة أثر للبيت، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى خليله إبراهيم أن ينقل ولده إسماعيل إلى مكة، فجاء امتثالاً لأمر الله كما قال الله عنه أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] وهذا باعتبار ما كان؛ لأنه لا يوجد بيت في وقت مناداة إبراهيم؛ لأن إبراهيم عليه السلام بناه بعد أن كبر إسماعيل وبوأ الله لإبراهيم مكان البيت - (بوأ) بمعنى: أطلعه على المباءة، والمباءة: المكان الذي يبوء إليه الإنسان ويئول- تقول كتب تاريخ المسجد الحرام: إن الله أرسل إليه سحابة في وقت الظهيرة -وقت الزوال- فسارت ثم وقفت وثبتت، وقال له المولى: خط على حدود ظلها.
فخط على حدود ظل تلك السحابة، ثم بدأ بالحفر فنزل حتى وصل إلى القواعد الأساسية كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فلم يضعها ابتداءً ولم يحط حجر الأساس، بل كانت القواعد موجودة من قبله، ومن الذي كان قد وضعها؟ نجد في ذلك آثاراً كثيرة، منها أن الملائكة بنته لآدم، ومنها أن آدم هو الذي وضعها بعد أن جاء شيث، وغيرها من الآثار، وكلها آثار لا ترتفع إلى درجة الصحة التي يقطع بها.
والذي عندنا من علم اليقين ما جاء في كتاب الله من العمارة الثانية وهي عمارة الخليل عليه السلام، فلما وصل إلى القواعد بنى عليها ورفعها، وكان إسماعيل عليه السلام يساعد أباه، وكما يقولون في تاريخه: كان يأتيه بالحجر ويرفعه إليه، إلى أن استوى البناء إلى قامة الإنسان، وبعد أن وصل إلى قامة الإنسان لم يكن لديهم (سقالة) ، وليس لديهم (مصعد) ، فجاء مقام إبراهيم، وهو: حجر كان يقف عليه إبراهيم، فإذا بالحجر يصعد بإبراهيم وهو حامل الحجر للبناء حتى يضعه في الجدار في مستوى ارتفاعه، وينزل الحجر بإبراهيم حتى يأخذ الحجر من إسماعيل ويصعد به، وهكذا.
ولذا فإن مقام إبراهيم فيه آيات بينات، يقول الفخر الرازي: الآيات جمع آية وهي موجودة في الحجر في مقام إبراهيم، وكيف هي؟ قال: وجود حجر أصم، ثم يلين هذا الحجر تحت قدميه كأنه من الطين، وتبقى صلابة الحجر في حوافها لم تلن، فحجر واحد البعض منه يلين والبعض منه يظل قاسياً هذا فيه آية، فالجزء الذي لان فيه آية، والجزء الباقي على قساوته فيه آية، وإلى الآن يوجد مقام إبراهيم في الفانوس الموجود في صحن المطاف، وفيه أثر قدمي إبراهيم في الحجر.
إذاً: المسجد الحرام اختص أولاً بقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] وهل هذه أولية مطلقة، بأن كان هو أول حركة عمران على وجه الأرض، أم هي أولية بالنسبة للمساجد؟ هناك من يرجح الأول، ويقول: إن أول عمران على وجه الأرض عند أن نزل آدم إلى الأرض هو البيت -الكعبة- ثم جاء إبراهيم عليه السلام وبوأ الله له المكان، وهذه خصيصة ثانية، فقام ببنائه إبراهيم يساعده إسماعيل والحجر معهم مساعد، وهذه خصيصة ثالثة، فاختص المسجد الحرام بهذه الأمور.
ثم هو في حرم آمن، ويتفق الجميع بأن الصلاة تتضاعف في جميع حرم مكة وليس في المسجد فقط، فبيوت مكة كلها داخلة في الحرم، فحدود الحرم إلى مسجد التنعيم، وجميع المساحة التي حول الحرم والتي لا يصح الإحرام منها للعمرة داخلة في الحرم وتتضاعف فيها الصلاة.
نأتي إلى مسجد المدينة: لما تمت بيعة العقبة الثانية، وجاءت الهجرة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -كما نعلم- نزل أول ما وصل بقباء، فبنى مسجدها، وكيف بناه وأين؟ تذكر كتب تاريخ المدينة حديثاً ضعيفاً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (اركب الناقة، فركب، قال: ارخ زمامها، فأرخاه، فقامت واستدارت في مربع، فقال: خطوا على أثرها، فخطوا على أثرها، وبدأ ببناء مسجد قباء على ما خطته الناقة) ، فقالوا: أيضاً كان اختيار المكان لمسجد قباء من الله، وقد شارك في بعض الاختصاصات، فالذي بناه هو رسول الله، وجعل من تطهر في بيته وأتى إليه وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة، وقال سعد بن أبي وقاص: (لأن أصلي ركعتين في مسجد قباء أحب إلي من أن أذهب إلى بيت المقدس، ولو تعلمون ما لهذا المسجد لضربتم إليه أكباد الإبل ولو شهراً) يعني: لو لم يكن عندنا لكان لفضله يستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل شهراً، يعني: تشد الرحال إليه.
والكلام على مسجد قباء كثير، ويكفي فيه من الفضل أن من قصده للصلاة فيه كان له كأجر عمرة، وقول هذا الصحابي الجليل: (لأن أصلي ركعتين فيه أحب إلي من أن أذهب إلى المسجد الأقصى) .
وبعد أن بنى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء نزل دافعاً إلى المدينة، وكانت -كما نعلم- قبائل الأوس والخزرج الذين بايعوه عند العقبة في استقباله بالعَدد والعُدد، وكل قبيلة تقول: هلم إلينا يا رسول الله! هلم إلى العَدد والعُدد.
أي: لنوفي لك بالعهد، فكان جوابه: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) يا سبحان الله! هذا نبي يوحى إليه بوحي السماء وفي أخطر رحلة يترك أمره إلى المأمورة وهي عجماء؟ ولماذا لا؟! ألم يوحِ ربك إلى النحل، والحيوانات لا تتحمل الوحي، لكنها تعقل، كما ذكر مالك في الموطأ: (أن يوم القيامة يكون يوم الجمعة، وأنه ما من دابة إلا وتصيخ بسمعها فجر يوم الجمعة شفقاً من الساعة) ، فإذاً: جميع الحيوانات تعلم يوم الجمعة من الخميس من السبت، وتدرك أن يوم الجمعة تقوم فيه الساعة، وتتسمع هل جاءت النفخة أو لا، فهي تعقل وتدرك، والناقة هنا مأمورة، فمضت إلى أن وصلت إلى هذا المكان المبارك فبركت، ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، ثم نهضت وهو عليها وراحت ودارت واستدارت ورجعت إلى المكان الأول وبركت ومدت عنقها وتحركت، يا سبحان الله! هل عندها خارطة تطبقها لتتثبت مما أمرت به؟! ليس عندها شيء من ذلك وإنما هذا لكي يكون عندهم علم بأنها ما جاءت عفواً وإنما بركت مأمورة بركت على العلم الأول، ثم قامت تتثبت وتتأكد بأنها مأمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه المنزل إن شاء الله) فرجع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه المنزل، وبتقريره المأمورة على ما أمرت به.
ويأتي السؤال هنا: لماذا ترك أمره للمأمورة؟ يجيب العلماء على ذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان عليه المجتمع في المدينة قبل مجيئه، فقد كانت الحرب سجالاً بين الأوس والخزرج مائة سنة، ولم تقف إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، إذاً: هم بالأمس كانوا في سباق في القتال، وكانوا طائفتين متقاتلتين متنافستين، ولا يوجد واحدة تسلِّم للثانية، فلما وضعت الحرب أوزارها وهدأت، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من جاءهم، فلو قال: سأنزل عند الأوس، فستقول الخزرج: الجرح لم يبرأ بعد، ولو قال: سأنزل عند الخزرج فستقول الأوس: ولماذا لسنا نحن؟ ولماذا تركتنا؟ فتثار بينهم الحزازات مرة أخرى.
لكن لما قال لهم: (إنها مأمورة) أي: عندكم الناقة وهي مأمورة فتفاهموا معها، واتركوني من تحمل مسئولية تفضيل قبيلة على قبيلة، فجاءت إلى حيث أمرها الله وبركت، فلم يتكلم أحد بشيء؛ لأنهم يعلمون أن المأمورة إنما يأمرها الله، فإذا اعترضوا كان اعتراضهم على الله، وهم جاءوا ليستقبلوا رسول الله لا ليعترضوا على الله! إذاً: انتهت مشكلة تنافس الأوس والخزرج.
بقي لنا المحل الذي نزل فيه وقال عنه: (إنه المنزل) والمنزل هذا ليس بخال وليس بقفر، بل هناك بيوت وفيها أناس، فلو قال: أنا سأنزل عند فلان لقال الأخرون: لماذا فلان؟ وستأتي المسألة ثانية، فوقف الجميع وكل واحدٍ يقول: عندي عندي، بيتي قريب، بيتي هنا، وهو ساكت، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه كتب الله له الخير فما زاحم ولا شارك ولا دافع وإنما قام ساكتاً وأخذ الرحل من على الناقة وجعله في بيته، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الناقة فوجدها خالية، فسأل أين الرحل؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: (المرء مع رحله) فلم يتخير أحداً ولم يبق على أحد غضاضة في ذلك.
إذاً: سلمت الرحلة من كل شوائب قد تثير في النفس شيئاً، فلما استقر في بيت أبي أيوب نظر فإذا أمام البيت -كما يقال- بستان صغير أو مربد، والمربد عند أهل النخيل: هو المتسع بين البساتين الذي يجمعون فيه الرطب حتى يتمر، وينشرونه فيه للشمس حتى تذهب الرطوبة عنه ويشتد، فسأل لمن هو؟ فقالوا: لأيتام - سهل وسهيل - عند أسعد بن زرارة، قال: عليَّ به.
فجاء، فقال له: ثامني على هذا المربد -ثامني يعني: اذكر لي ثمنه وبعه علي بالثمن-.
قال: لا يا رسول الله! هو لك بدون ثمن، هو لأيتام عندي سأرضيهم عنه بأرض بدله أو بتعويض عنه، قال: لا، ثامنّي.
فثامنه وانتهى الثمن على عشرين ديناراً ذهباً، فدفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فكل ركعة يركعها الإنسان في المسجد النبوي يكون لـ أبي بكر فيها أجر.
فقطع الجريد، وسوى الأرض، وبدأ ببناء المسجد من جذوع النخ