قد تقدمت الإشارة إلى قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأن الجمهور يرون صحة الاعتكاف في كل مسجد، ويشترطون المسجد الجامع للرجل حتى يصلي الصلوات الخمس في جماعة، وحتى يحضر صلاة الجمعة، ولا يضطر إلى أن يخرج ويقطع اعتكافه للجمعة والجماعة، ولكن يوجد من العلماء من غير الأئمة الأربعة من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، أخذاً من قوله سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
وهناك من يقول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد النبوي، عملاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يعتكف قط إلا في المسجد النبوي.
وهناك من يقول: الاعتكاف جائز في تلك المساجد الثلاثة، وألحقوا المسجد الأقصى بالمسجدين السابقين لاشتراطه معهما في خصوصية شد الرحال، ويستدل بهذا الحديث بأنه لا يجوز لأحد أن يشد الرحل إلى أي مسجد في الأرض ليعتكف فيه إلا إلى أحد هذه الثلاثة؛ لأن جميع المساجد على وجه الأرض ما عدا تلك المساجد الثلاثة فيما يتعلق بالعبادات سواء، فمثلاً: لا يجوز لإنسان في مصر يشد الرحل إلى الجامع الأموي في دمشق ليعتكف فيه؛ لأن المساجد في مصر تعادل المساجد في دمشق، ولا يحق لأحد في دمشق أن يشد الرحل إلى مصر ليعتكف مثلاً في الجامع الأزهر؛ لأن مساجد دمشق بالنسبة للعبادات سواء مع مصر وغيرها، وهكذا الجوامع القديمة كجامع قرطبة أو الزيتونة أو غير ذلك من المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ومعلوم أن شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة إنما هو لموضوعية المساجد، وهي: الصلاة والاعتكاف.
إذاً: بهذا الحديث ينبه المؤلف رحمه الله على أن أي إنسان في أي بقعة من العالم إذا أراد أن يعتكف فيعتكف في مسجد من مساجد بلده أياً كان موقعه وأياً كان نوعية مسجده، مادام يجمع فيه، إلا إذا أراد الفضيلة فله أن يشد الرحال إلى واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإذا جاء أي إنسان من شرق أو غرب أو شمال أو جنوب في محيط الأرض إلى أحد هذه المساجد الثلاثة ليعتكف فيه فلا مانع.