وبدأ المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر الأشياء الثلاثة: التمر والزبيب والشعير.
عند قوله: (فرض رسول الله) الفرض: بمعنى القطع، تقول: فرض الحبلُ الحجر بمعنى: حز فيه ولم يفصله، ومنه الفرائض: القطعة من الواجبات، وتقول فرض، بمعنى ألزم، أي: أوجب، فهنا الجمهور يقولون: فرض بمعنى أوجب وألزم، كما تقول: فريضة الصلاة، فريضة الصيام، فريضة الحج؛ بمعنى الوجوب، فمعناه: أوجب صدقة الفطر صاعاً، ويكون في هذا الحديث الحكمان: وجوب زكاة الفطر ومقدارها.
وبعضهم يقول: فرض بمعنى: قدر، ومنه الفرائض: أي بيان قدر استحقاق الورثة، كل بحسبه وبفرضه، ولكن الجمهور على أن فرض بمعنى أوجب وألزم، والفرق بين القولين: هو الحكم على زكاة الفطر، أهي فريضة واجبة كزكاة المال والصلوات الخمس أم هي ليست واجبة؟ فمن حمل كلمة (فرض) على ظاهرها، وقال: معناها أوجب، تكون فريضة، والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لهم أقوال في هذه الناحية، والقول المشهور: أن زكاة الفطر واجبة، وواجبة على رأي الجمهور مع اختلافهم في اصطلاح الوجوب، فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد أن الفرض والواجب والركن سواء إلا في الحج، فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر، فالواجب فيه يجبر بدم أو نحوه، والفرض أو الركن لا يجبر ببديل عنه، بل لابد من الإتيان به.
والأحناف عندهم فرق عام بين الفرض وبين الواجب في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج، يقولون: هذا فرض، ويقولون: هذا واجب.
في كل التكاليف، وهذا اصطلاح خاص بالأحناف، وعندهم أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي الثبوت، فالثابت بخبر قطعي وهو نص القرآن الكريم أو السنة المتواترة يعتبر فرضاً، وما ثبت بأحاديث الآحاد فهذا واجب، أي أنه دون الفرض بشيء.
فالأحناف يقولون: صدقة الفطر واجبة، أي: ليست فريضة.
والمالكية لهم أقوال وتفصيلات في ذلك، وأما الحنابلة فالثابت عندهم أنها فرض بمعنى الوجوب واللزوم، وكذلك المالكية المشهور عنهم هذا.
وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول: زكاة الفطر وجبت أولاً، ثم جاءت زكاة الأموال ثانياً، فبعضهم قال: زكاة الأموال نسخت وجوب زكاة الفطر، ولكن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب: محمول على الإيجاب ولم يرد له ناسخ، وعلى هذا يمكن أن نقول بعد مضي هذا الزمان، وبعد طول الوقت وعمل المسلمين: الكل يتفق على أنها واجبة، سواء قلنا: وجوب الأحناف، أو قلنا: وجوب الجمهور، فهي واجبة ومن لم يؤدها فهو آثم.
إذاً: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هو الأصل في هذا الباب، ويبحث في باب زكاة الفطر: فرضيتها -وقد تقدم شيء من ذلك- ومقدارها، وعلى من تجب، وعمن تجب، ولمن تجب، ومتى وجوبها، ومما تجب أيضاً، هذه النقاط الرئيسية -سبع نقاط في هذا الباب- يتناولها الفقهاء، ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختلاف.
فقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (فرض رسول الله) أسند الفرض هنا -وهو الإيجاب والإلزام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: في ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع والإيجاب من رسول الله، وإذا شرع أو فرض رسول الله يكون هذا من عند رسول الله، وهو بلغ عن الله، لأنه لا شك أنه لا ينطق عن الهوى، ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب أم ليس له حق؟ له حق في ذلك، والله سبحانه وتعالى أمر بطاعته صلوات الله وسلامه عليه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] .
وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن الله، ومنها عن رسول الله متممة لما جاء عن الله، فمثلاً: جاء عن الله سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء الأمهات والبنات والأخوات.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] بصرف النظر عن النقاش في الأختين بالعقد أو الأختين بملك اليمين، فالجمع بين الأختين محرم بكتاب الله، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تنكح المرأة مع خالتها، أو مع عمتها) ، فالقرآن جاء بالنهي عن الجمع بين الأختين، وهنا السنة زادت: الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، إذاً: هذه المحرمات في السنة زائدة عما جاء في القرآن، إذاً: له صلى الله عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن يندب إلى الفعل؛ لأن له حق التشريع؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى؛ ولأنه إنما هو وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] .
وعلى هذا سواء قلنا: إن الأصل في الفرض كان من الله أو من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك العموم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ثم في بعث معاذ إلى اليمن صرح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله الذي فرض الزكاة، والمقصود هنا في بعث معاذ زكاة الأموال: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، قد يقول قائل: هذا في زكاة الأموال، وهذا الذي قام به معاذ وأبو موسى الأشعري في اليمن، لكن يقال: عموم الزكاة في أموالهم تشمل زكاة الفطر أيضاً لأنها زكاة.
إذاً: المشروعية أساساً كانت من الله سبحانه وتعالى، والرسول مبلغ عن الله، سواء ذكر لنا المصدر من الله أو منه صلى الله عليه وسلم، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
ثم جاء بالمقدار وبالأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر، وإذا أراد إنسان أن يتكلم في النواحي الجانبية أو الاجتماعية أو الأخوية يجد أن هذا التشريع الكريم قوى عوامل ارتباط المسلم بأخيه؛ لأنه العامل الذي يجمع بين طبقات المجتمع على اختلاف أنواعها، فنجد التعميم والشمول: الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير، الكبير، فهي أشمل من زكاة المال في من تجب عليه، فكل مسلم عليه زكاة الفطر، ولو كان رقيقاً لا يملك شيئاً، فسيده يدفع عنه، والصغير لا يملك شيئاً فوليه يدفع عنه.
وقد يقول بعض القائلين: هي طهرة للصائم، والصغير ليس عليه صيام، فلماذا نخرج الزكاة عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه لا زكاة عليه، ولكن نقول: ليست المهمة طهرة للصائم الفعلي فقط، بل إنها لعامة أفراد الأمة المسلمة: الذكر، الأنثى، الحر، العبد، الصغير، الكبير؛ لشمول العطاء.
وإذا نظرنا إلى المجتمع الفقير والغني، الأغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، والفقراء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، فتكون زكاة الصغار من الأغنياء تقابل الصغار من الفقراء، ويكون الشمول عاماً، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله عند قوله: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .