أما قوله صلى الله عليه وسلم: (صاعاً) فالصاع وحدة مكيال، وهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه المد، وهو ربع الصاع، والصاع هو المكيال العام، وما كان يوجد أنواع من المكاييل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذين النوعين: الصاع والمد النبويين.
والصاع كان معروفاً ومتداولاً، ولا حاجة إلى بيان الرسول لكميته أو مقداره، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، فلا حاجة إلى التعريف بأن يقول: بيتي يقع في الشرق، المنبر يقع في الغرب، طوله كذا وعرضه كذا لا حاجة لهذا؛ لأنها معروفة بالتواجد والمشاهدة والحس، فكذلك الصاع، ولكننا مع طول الزمن وتغير الأحوال أصبحنا الآن قد لا نجد الصاع، وقد لا يعرفه إنسان، فكيف نعرف هذا؟ سبق أن نبهنا مراراً بأنه واجب على كل مسلم، أو كل حارة، أو كل بيت كبير أن يوجد الصاع لديهم؛ لأنه على هذا الصاع تتوقف أحكام كثيرة: الإطعام في الكفارة، الفطر في رمضان، أنصبة الزكاة، خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة الحبوب والتمور؟ وكيف نعرف مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف الإطعام في الكفارات على من كفارته الإطعام؟ فهذه أمور شرعية يكلف بها الإنسان ويضطر إليها، فلابد أن يكون عند كل شخص صاع، وخاصة في المدينة؛ لأنها الأصل الذي يرجع إليها عامة بلاد المسلمين، الذي في الأندلس، والذي في أوروبا أو في أي جهة كانت، وأراد أن يطبق الشريعة الإسلامية فيما يجب عليه من ناحية المقدار بالمكيال، فإنه سيأتي ويسأل أهل المدينة: ما هو الصاع عندكم يا أهل المدينة؟ ولهذا لما اختلف أبو يوسف مع مالك رحمهما الله، وذلك حين جاء أبو يوسف من العراق إلى المدينة وسأل عن الصاع؛ لأن المدينة هي الأصل في ذلك، فالمكيال مكيال المدينة، والوزن وزن مكة، ولهذا ذكرنا سابقاً ضرورة توحيد المكيال والميزان في الدولة، سواء اتفقوا على الصاع أو على الرطل أو على الأوقية -أي: الكيلو- يجب أن تكون الموازين والمكاييل موحدة في الدولة، حتى لا يختلف الناس.
ولما جاء أبو يوسف إلى المدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً: كم الصاع عندكم؟ قال: خمسة أرطال وثلث، أي: بالرطل العراقي.
قال: لكنه عندنا ثمانية أرطال.
يعني: هناك فرق زائد، وهو رطلان وثلثان زيادة، فبماذا أجابه مالك؟ طلب من الحاضرين أن من كان عنده صاع في بيته يخرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الآتي ويخرج من تحت ردائه مكيالاً ويقول: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الزكاة به على عهد رسول الله، واجتمع عند مالك في الحلقة نحو خمسون صاعاً، وأبو يوسف حاضر وشاهد، وما هناك اتفاق ولا تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها، فهي موجودة قبل الطلب، وهذا يأتي من يمين وهذا يأتي من يسار، وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته، فوجد أبو يوسف الأمر قطعياً، وهذا هو مدلول التواتر.
فيقول أبو يوسف: فنظرت في تلك الصيعان فوجدتها متحدة.
يعني: في مقاس واحد، فأخذت واحدة منها -لأن الواحد يغني عن الجميع- فذهبت إلى السوق فعايرته بعدس الماش فإذا وزنه خمسة أرطال وثلث.
ولما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد.
قالوا: وما هو؟! قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث.
قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: خالفت الإمام أبا حنيفة رحمه الله، فقال: رأيت أمراً لم أجد له مدفعاً.
وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء الحديث: إن التواتر يفيد العلم بخلاف الآحاد فإنه يفيد غلبة الظن، وغلبة الظن يمكن أن تنفيها، ويمكن أن تشكك فيها، لكن علم اليقين لا يمكن أن تدفعه عن نفسك، لأنه علم ضروري.
ومعنى (ضروري) : لو أردت أن تدفعه عن مخيلتك لم تستطع، هذا رجل وتلك امرأة، لا تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بين الرجل والمرأة؛ لأنها حقيقة واقعية.
وهنا: الصاع كان معلوماً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره دون أن يتعرض إلى مقداره، وظل الصاع موجوداً دائماً إلى عهد بني أمية فجعلوا صاعاً للسوق، يسع ثلاثة آصع من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، والصاع النبوي أربعة أمداد، وهؤلاء جاءوا بمد يعادل ثلاثة صيعان، يعني: اثني عشر مداً بالمد النبوي، فاختلفت المكاييل.
ثم لا زال الناس يتوارثون الصاع في المدينة إلى عهد قريب لا يزيد عن عشر سنوات، وكان هو وحدة المكيال في السوق في البيع والشراء، إلى أن دخل تلاعب في التمور في الأسواق مع الحجاج، فجاء الأمر بإبدال الكيل إلى الوزن، وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي المقدار الذي يتبايع عليه الناس، سواء كان المبيع الأصل فيه الكيل كجميع الحبوب والتمور، أو كان الأصل فيه إنما هو الوزن فهو على طريقه.
وجاء عن العز بن عبد السلام رحمه الله أنه قال: يجب على الأمة اتباع ولي أمرها في أربعة أمور: وحدة الكيل، ووحدة الوزن، ونوعية النقد، وأمر الحرب إعلاناً أو هدنة: فإذا اختار ولي أمر أمة نوعاً من المكيال سواء الصاع النبوي، أو مكيالاً يسع صاعين أو ثلاثة، أو غير ذلك، وجب اتباعه، وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى الأمة أن تمتثل بذلك لتحقيق وحدة الوزن في الدولة، وهكذا أصبحت كل دولة لها وحدة مكيال تتعامل به في الأسواق، وهذا لا غبار عليه، يبيع الناس كيف شاءوا، إذا قيل: مقدار هذا الوعاء يسع خمسة آصع بعشرة ريال، وجيء بنصفه وبربعه واعتبرت هذه وحدة مكاييل تجزأ بالأنصبة نصف وثلث وربع.
إلخ فلا مانع من ذلك؛ لأنها معاوضة سلعة بمال، ولكن إذا جئنا إلى الحكم الشرعي فلابد من تعيين المقدار الذي عينه الشارع، والشارع عين بالصاع.
ولهذا نحث الإخوة على أن يكون الصاع موجوداً في بيوتهم، بل إن أهل المدينة إلى العهد القريب -كما قلنا- كانوا يجعلون الصاع في بيوتهم، وعلى موضع الدقيق أو البر أو الأرز يغرفون به التماساً لبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) فكان بدلاً من أن يأتي بإناء يغرف به أو يغرف بيده، يأتي بالمد ويغرف به من الدقيق إلى الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام، ويقول: اللهم بارك لنا في مدنا، فاغترافه بالمد يلتمس بركة دعوة رسول الله.
ولما أوقف التعامل بالصاع والمد تغافل الناس عن ذلك، وأصبحوا يتعاملون بالوزن على وحدة الكيل كوحدة مئوية -يعني: ألف جرام- وأصبحت وحدة عالمية يتعامل بها العالم كله أو يعرفها العالم كله.
والوقت الحاضر بالبحث عن أجرام الصيعان التي كانت موجودة، ووجود بعض النوادر عن بعض من يحتفظ بها، قد يقع بعض الاختلاف، وهناك لجنة المواصفات في الرياض عملت مسحاً لجميع أطراف المملكة، وأخذت نماذج مما يوجد من الصيعان، فتقاربت؛ لأن أصل التقدير التقارب.
فالصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفين متوسطتين لإنسان متوسط، وطبعاً لا يمكن أن تتعادل جميع الحفنات بالجرام، أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها في كفة، ثم حفنت مرة أخرى في كفة ثانية ستختلف، إذاً: المسألة تقريبية، والصيعان التي وجدوها في مناطق المملكة متقاربة، تختلف في مائة جرام في خمسين في مائة وخمسين في مائتين جرام، يعني: حفنة يد لا أقل ولا أكثر.
فمما وجدناه بالتجارب أن مكيلة الصاع نوعان: مكيلة تملأ إلى الحافة وتزيد فيها التسنيم الذي فوق حافة الصاع، كالشكل الهرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق، فتبدأ قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إلى أعلى على شكل الهرم، هذه التي فوق فتحة الصاع على شكل الهرم تختلف باختلاف فتحات الصيعان، فهناك صاع يكون طويلاً وفتحته قطرها (5 سم) ، فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغيرة، ومساحة المثلث -كما يقولون- نصف القاعدة في الارتفاع، فإذا كانت فتحة الصاع كبيرة سيكون التسنيم فوق الفتحة كبيراً بلا شك، إذاً: العبرة هنا في التعبير أو في التعيير أو في المعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك الزيادة، وبتجربة ذلك: أنواع الحبوب يختلف وزنها، كما يقول الفقهاء: فيوجد فرق بين التمر وبين الحمص، فليس الحمص في رزانة وثقل التمر، لأن التمر أثقل.
فقالوا: هناك أمور تقديرية؛ لأن بعض الحبوب أرزن وأثقل من بعض، وكذلك بعض الحبوب يكون مرصوفاً، وبعض الحبوب يكون متجافياً -فيه فجوات وفراغ- فعندما تكيل صاعاً من الشعير وتكيل صاعاً من الأرز، هل فجوات الأرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات حبات الشعير، أم أن حبات الشعير فيها فراغ أكثر؟ فيها فراغ أكثر، إذاً: يرجع إلى الرزانة وإلى تلاصق الحبات التي تكيلها.
إذاً: المسألة تقريبية، ولكن لو كان التعيير بالماء، فالماء وحدة تتفق في المقياس وفي الوزن، أي: المقياس التعكيبي وهو الجرم، والوزن بالجرام، فبالتجارب وجدنا أن الصاع الذي يتفق مع غلبة الظن بالصاع النبوي الذي كان يتعامل به في المدينة المنورة، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله إذا صنع الصاع من الخشب، ختم عليه إذا عوير بالصاع المعترف به عند العلماء، ولذلك كانوا يقولون: الصاع المختوم.
يعني: الذي ختم بختم الدولة بأنه مطابق للصاع الشرعي.
الآن وجدت صيعان من الحديد، ومن الزنك، ومن النحاس، فبتعيير تلك الصيعان التي صنعت جديداً على الصيعان التي وجدت قديماً مختومة، وجدنا سعة الصاع بالماء ثلاثمائة وثلاثة آلاف جرام، فإذا كنا وجدنا أي مكيال: (جلن) ، أو علبة حليب، أو علبة سمن، وكان سعتها بالماء ثلاثة كيلو فهذا أول وزن الصاع، فثلاثة كيلو أحياناً يكون فيها زيادة مائة جرام أو خمسين جراماً على ما أظن، وهذا أمر تقريبي، ومساحتها بالعدس اثنين كيلو وستمائة جرام، فإذا وجدنا أي ظرف، أو أي وعاء يحمل من الماء ثلاثة كيلو ومائة جرام على التحديد فهذا هو الصاع، ثلاثة كيلو وخمسين جراماً، ثلاثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً، فلا يضر، والحق المعتدل: ثلاثة كيلو من الماء، وإذا كان يحمل من العدس خاصة -لأنهم يقولون العدس المجروش يتلاصق ولا