والقرطبي رحمه الله يسوق نقاشاً لطيفاً في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، فيقول: بعض الأحناف تمسكوا بعموم (معروشات) فالعنب يقوم على عريش (وغير معروشات) : النخل والأشجار الأخرى (والنخل والرمان والزيتون، كل هذه) {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141] ، (ثمره) : الضمير راجع لكل المذكورات من معروشات وغير معروشات، وإلى الزرع والنخيل والرمان والزيتون.
إلى آخره.
(وآتوا حقه) : الضمير في (حقه) راجع أيضاً إلى جميع المذكورات، وهذا مما استدل به أيضاً أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه يجيب عن ذلك ويقول: إن هذا الحق غير فريضة الزكاة، وكان في هذه الأنواع حق قبل فرض الزكاة، كما في الحديث: (في المال حقٌ سوى الزكاة) ، قالوا: إذا حضر الجذاذ فأعطه، وإذا حضر الحصاد فأعطه، ثم إذا حصدت وذريت وكلت ووسقت فأخرج الزكاة المفروضة في الموسق، فيجيبون على أن حقه هنا للنافلة وليس للفريضة.
ويبدو لي والله تعالى أعلم: أن هذا له نظير، وذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر فتطؤه بخفافها، وتعظه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار، وما من صاحب بقر وما من صاحب غنم فقالوا: والخيل يا رسول الله؟! قال: الخيل ثلاثة: -وذكرها- ثم قال: ولم ينس حق الله فيها) فقالوا: حق الله في الخيل ليست زكاة، ولكن أن يركب المنقطع، وأن يطلق الفحل على فرس غيره، وأن يساعد بها المسكين أو غير ذلك من باب التطوع.
(قالوا: والحمر؟ قال: لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ) .
فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيل ليس فرض الزكاة، وقد ذكرنا الخلاف في زكاة الخيل.
فقوله: (ولم ينس حق الله فيها) بإجماعهم أنها ليست الزكاة، إذاً: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] إنما هو من باب النافلة وليس من باب الفريضة، والنقاش طويل في هذه الآية الكريمة ساقه الإمام القرطبي في تفسيره.
إذاً: هذه الأصناف الأربعة مجمع على أنها زكوية، ومختلف فيما عداها، فالذي قال بجميع ما أنبتت الأرض الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأما صاحباه محمد وأبو يوسف فمع الجمهور.
ثم أحمد يعجب الزكاة في كل موسق مدخر ولو لم يكن قوتاً، وعند الشافعي ومالك: ما كان بضميمة كونه قوتاً، وأما ما كان دواءً أو فاكهةً أو غير قوت فليس داخلاً في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.