الاجتهاد مع وجود النص

أما الصورة الأولى التي تختلف بوجه قد يكون مقتصداً وقد يكون فوق ذلك، وقد يكون غالياً مع الأصل الأول الذي هو بناء العلم على الدليل من الكتاب والسنة والإجماع، فهي هو ما نسميه: وجود الاجتهاد مع النص، أو استعمال كثير من الخاصة من الصوفية للاجتهاد مع النص، وهناك القاعدة الشرعية: أنه لا اجتهاد مع النص.

وليس المقصود بذلك أنهم اجتهدوا في أوجه من العبادات أو العمل في السلوك والأحوال والمقامات تختلف مع النصوص خاصة؛ فإن هذا قد يكون وجهاً، لكن قد لا تطرد أمثلته المتقابلة.

لكن عندنا قاعدة أضبط، وهي أن النصوص الشرعية مضت بأن العبادات توقيفية، وهذا يعتبر قضاء نص، وحكم نص، بل حكم نصوص منضبطة؛ فمن أوجد صورة من صور العمل والسلوك -سواء صورة قلبية نطبقها في الحالة القلبية، أو صورة الحركة والعمل- وليس فيها نص معين، فإن هذا حتى لو قصد بها القربة إلى الله، ورأى أن فيها صلاحاً لنفسه أو ما إلى ذلك، فما دام أنه استعمل هذه الصورة على جهة التعبد ولا يوجد فيها نص، فتسمى هذه الصورة إذا صدرت من الخاصة اجتهاد مع النص.

حتى لو قال: إن هذه الصورة تقربه إلى الله، أو ما إلى ذلك، فإن هذا وحده ليس كافياً، بل لا بد أن تكون هذه القربة التي توصل العبد إلى ربه من الطرق والعبادات التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويشرعها لأمته.

وعليه فهذا الوجه من الاجتهاد هو اجتهاد مع النص، وقد يكون هذا النص نصاً صريحاً منع من هذه العبادة ونهى عنها، كمن أراد أن يصوم فلا يفطر أو يقوم فلا يفتر، فنقول: إنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص ما يمنع التعبد بهذا الوجه، كما في قصة النفر في حديث أنس وغيره.

لكنّ هذا المقام يطرد أكثر؛ لأن العبادات المحدثة لم تحدث كلها في زمن النبوة حتى ينص النبي صلى الله عليه وسلم على منعها، بل إن القليل هو الذي حدث ونص النبي صلى الله عليه وسلم على منعه، وقد يحدث في القرن شيء لم يحدث في القرن السابق.

فقد يقول قائل: ما الدليل على أن هذه الصورة من الذكر أو السجود أو القيام في زيارة القبر أو أي عمل من الأعمال، ما الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على منعها؟

فنقول: الدليل أن النصوص قضت أن العبادة توقيفية، بل هذا من أخص أصول الإسلام، يقول الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13]، ويقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فإذا اعتبرنا هذه القاعدة فإن الفوات الذي دخل على كثير من خاصة الصوفية -حتى مقتصديهم وفضلائهم- إنما دخل عليهم من جهة أنهم اجتهدوا في عبادات من الذكر والصلاة والقيام والأحوال القلبية يجدون فيها تقريباً إلى الله -أي: تقريباً لنفوسهم إلى الله ومحبة وما إلى ذلك- ولم يلتفتوا إلى جهة أخرى مقصودة في الشريعة، بل هي من أخص أصولها، وهي المطابقة لصريح الهدي؛ فإن الأصل في العبادات التوقيف.

وإذا تأملت أحوال الصوفية في سابق تاريخهم وفي حالهم اليوم، وجدت أن ثمة صوراً كثيرة من العبادات التي قد يكون التأخر إنما دخل عليها من جهة الزمان أو من جهة التخصيص في مكان، أو نحو ذلك من العوارض التي تمنع شرعية العبادة، وذلك مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معلوم أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من أشرف القربات، بل قد تكلم أهل العلم في وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين أمراً فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].

لكن طرق الصلاة والسلام على رسول الله هذه قد يدخلها بعض الصورة المتكلفة التي تعتبر محدثة في الإسلام.

وقد يكون أصل العبادة مشروعاً ولكنه اتخذ صورة أو زماناً أو مكاناً من التخصيص ليس على تشريعه دليل، فهذا ما نسميه: الاجتهاد مع النص، وهذا كثير في الأفعال التي دخلت على الصوفية، أنهم اجتهدوا في عبادات هي من حيث الأصل قد تكون مشروعة، فالذكر أصله مشروع، فهو عبادة أثنى الله سبحانه وتعالى على من يقوم بها، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الماهيات يجب أن تكون مطابقة للشريعة.

وهنا مسألة مهمة: وهي أن المطابقة للشريعة هي مطابقة فقهية، بمعنى: أن بعض الصور قد يختلف الفقهاء في جوازها أو في كونها مشروعة، وقد تقدم أن ثمة أمثلة تكلم فيها الفقهاء فإذا وصلت المسألة إلى انفكاك عن فقه الفقهاء المتقدمين، وعرف أن الفقهاء المتقدمين لا يرون تحصيل هذه الصورة من العمل من فقه الشريعة، فهذا هو الذي نستطيع أن نسميه: اجتهاداً مع النص.

أما إذا كانت هذه الصورة من العمل جوزها بعض الفقهاء المتقدمين وفقهها من بعض النصوص، وإن خالفه من خالفه، ففرق بين فعلها والقيام بها، وبين إنكارها وتبليغها، فإن التبديع لا يصح إلا إذا انضبط أن هذه الصورة مخالفة لصريح السنة.

أما إذا كان -مثلاً- مالك أو الشافعي أو الأوزاعي أو الثوري جوز فعلاً من الأفعال وفقهه من النصوص، وخالفه الجمهور في ذلك، فهذه المسألة لا تصل إلى درجة أن نسميه اجتهاداً مع النص، وإن كان بعض الناس ظهر له أن النص جاء بخلافها، فهذا أمر لا تناهي له.

فالذي نقصده بالاجتهاد مع النص: هو تلك الصور من الفعل والعبادة والحركة التي ربما أصولها شرعية لكن تطبيقها الخاص لم يقر عند أحد من الفقهاء المتقدمين.

وهذا يختلف مع الأصل الأول من أصول الوسطية، وهو إحكام العلم بالكتاب والسنة والإجماع، ونقول الإجماع؛ لأنه إذا لم يوجد إجماع بل وجد خلاف بين المتقدمين، فمن اختار وجهاً فلا نقول إنه اجتهد مع النص إذا رأينا أن اجتهاده ليس صواباً، بل هذا يدخل في الاجتهاد الشرعي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أخطأ فله أجر).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015