ذكر شيخ الإسلام لما في أتباع عدي بن مسافر من صلاح ودين وجهاد

قال المصنف رحمه الله: [فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين].

إذا كتب الكاتب أو تكلم المتكلم، ولو في قوم عندهم بدع، لكن في علمه وفقهه أنهم دون غيرهم من أهل البدع، فينبغي أن يميز ما هم عليه من الخير وانفكاكهم عن البدع المغلظة؛ فإن من أهم المقاصد في فقه الدعوة أن لا يزيد هؤلاء القوم عن هذه البدعة إلى بدعة أشد منها، بل يقصرون عن التمام في البدع، ويردون عما هم عليه من البدع إلى السنة.

إما إذا كتب الإنسان كتاباً فيه الذم والسب والطعن والتهجم، ومع ذلك يطالبهم بأن يرجعوا إلى الحق، فإن النفوس أحياناً لا تقوى على ذلك، وهذا إذا عرض هذا في بعض الصور من بعض الأئمة فلكونه وصل إلى اجتهاده رأى أن الحكمة تقتضيه:

وقد يقول قائل: هذا هو منهج السلف.

فنقول: هذا له مثالات، لكن فرق بين أن يكون له مثالات عند السلف وبين كونه هو المنهج الوحيد عند السلف، فإنه لا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو المنهج المستعمل -أعني طريقة الذم والطعن والتبرؤ-.

فمثلاً: في رد الدارمي على بشر بن غياث، نجد أن كلام الدارمي رحمه الله كلام علمي منظم، فيه رد وإبطال لشبه بشر ودعواه، لكن مع ذلك قد اشتد عليه في الكلام والذم، فهذا المنهج لا نقول: إنه لا يستعمل أبداً، بل إذا وجد المقتضي عند من هو من أهل العلم أن يصل إلى هذا الأسلوب مع معين؛ لأنه رأى عليه مكابرة أو معاندة أو ما إلى ذلك، فهذا مقام يقتضيه مقامه، لكن أن يكون هذا هو الشأن العام لمن ضل متأولاً أو جاهلاً، أو من ضل في بدعة وهي من بدع الأقوال، أو من كان في بدعة فوق ذلك لا تصل إلى حد البدع المغلظة، فإن هذا ليس منهجاً مطرداً.

والله سبحانه قد أوضح هذا المنهج في كتابه الكريم، حيث بين أن مجادلة من كفر بالرسالة لا تكون إلا بالتي هي أحسن، فقال عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وعندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وهذا حسن تأتي، لكنه عليه الصلاة والسلام -وحاشاه عن ذلك- ما نقص الحقيقة، فقال: (أسلم تسلم)، أي: إذا لم تسلِم فلن تسلَم، هذا هو مفهوم الكلام: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، وهذا من الترغيب؛ لأن في سنته -كما في حديث أبي موسى وابن عمر وغيرهما-: (ثلاثة يعطون أجرهم مرتين)، وذكر عليه الصلاة والسلام منهم: (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم -أي: محمداً عليه الصلاة والسلام- فآمن به واتبعه، فله أجران).

ثم يقول له: (وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) قيل: إنهم عوام النصارى، وقيل غير ذلك، ثم قرأ الآية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64].

فهذا كان ضبطاً لحقائق التوحيد، ولا يوجد أي إنقاص له في خطابه عليه الصلاة والسلام، لكن كان حسن التأتي؛ ولذلك يقول أنس كما في الصحيح: (كتب رسول الله إلى كل جبار يدعوهم إلى الله)، ولما قيل له عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليهم، قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أبعث لعاناً).

فالمؤمن لا يليق به -وخاصة طالب العلم- السب والذم لخلق الله، حتى لو كانوا مخالفين له في بعض المسائل، فإن المخالف يقرب إلى الحق، وإذا اقتضى المقام شدة -ولا أقول: لعناً، فإن عامة السلف لا يرون استعمال اللعن في الأعيان من المسلمين- أو تصريحاً بمقام، أو ذكراً لاسم شرعي؛ فإن هذا فقه يذكره من يذكره من أعيان السلف كأحوال، لكنها ليست هي وحدها المستعملة في فقهه.

وللإمام أحمد رضي الله تعالى عنه كلمات لبعض المخالفين فيها قوة، وله بعض الكلمات فيها من حسن التأتي والترفق، فهذا فقه شرعي.

وعلى طالب العلم أن يبحث عنه في آثار بعض أهل العلم، ومع أن هذا بحث جيد، لكن أجل من البحث في آثار بعض أهل العلم أن يبحث في القرآن، فإن فيه سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقصصهم في منهج فقه الدعوة، والدعوة إلى الحق، وتصحيح الأخطاء وما إلى ذلك.

هذا هو المقصود من قصص الأنبياء، وليس المقصود ذكر النظام التاريخي الموجود في بعض الحضارات، وأن نعرف ما هو اسم فلان وما هو اسم فلان؛ حتى إنه في كثير من قصص الأنبياء لا يذكر الاسم، ففي قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر:28]، فلم يذكر الاسم، ولم يعرف الرجل؛ لأنه لا يهم الاسم؛ فإن الاسم -أي اسم كان- لا يقدم ولا يؤخر، وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام يقول الله سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65]، ففي سياق القرآن لم يصرح بالاسم، لكن جاء النبي عليه الصلاة والسلام بمقام الخبر وما عنده من الاختصاص وصرح عليه الصلاة والسلام باسم الخضر، وإتيان موسى إليه، والسبب هو أن موسى قام في بني إسرائيل، فقام رجل فقال: يا موسى! هل أحد أعلم منك؟ فقال: لا.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام -يعني: موسى- نبياً خاتماً عاماً للثقلين الإنس والجن، فعتب الله عليه كما في حديث ابن عباس في الصحيح قال: (فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه)، ثم بين الله سبحانه صفة هذا الرجل فقال: (فَوَجَدَا) أي: موسى وفتاه {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، أي: جمع له مقام العلم مع الرحمة، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: "علم بلا رحمة لا ينفع"، فهو استطالة على خلق الله، ويقول: "رحمة بلا علم لا تنفع".

ونلاحظ في هذا العصر أن البعض عنده شيء من العلم، لكن عنده قسوة على الناس، ولو خلي بينه وبين بعض الناس لفعل الأفاعيل، وهذا ليس هدياً ولا منهجاً حتى لأئمة السلف مع أهل البدع؛ ونجد مثل ذلك في موقف الإمام أحمد رحمه الله من المعتزلة؛ فإنه قبل أن يأتي المأمون وتبدأ فتنة خلق القرآن، كان يذم القول بخلق القرآن، ويحذر من أهله، لكنه ملجم لنفسه بلجام الشريعة ولجام العدل، لكن لما تسلط المعتزلة وبعض قضاتهم في زمن المأمون العباسي وأفتى بعض قضاة المعتزلة بقتل الأئمة، ثم رجع الأمر وتحسنت الحال زمن المتوكل العباسي، لم يقل الإمام أحمد رحمه الله: هذه بهذه، وأصدر فتوى بقتل فلان وفلان أو ملاحقة فلان وفلان.

وهذا فقه شريف، ولا شك أن منهج السلف هو المنهج الذي يجب أن نكون عليه، لكن ينبغي أن نكون فقهاء فيه، وهذا المذهب ليس أكثر من الكتاب والسنة؛ لأن مذهبهم محصل من الكتاب والسنة، فليتفقه الطالب في كلام الله قبل كل شيء، ثم فيما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما كتب الحديث المشهورة كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك رحمهم الله.

[وما زال في عساكر المسلمين المنصورة وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين، ويعز به المؤمنين].

وهذا ثناء عليهم بما هم عليه من الخير، وهذا مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، فهو فعلاً عظيم الروم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد في الأمر أو أعطى الرجل ما ليس له، بل هذا اعتراف بالشيء الواقع.

كذلك المؤلف هنا يعترف بما لهم من الخير، ولا بد للإنسان أن يعترف؛ فإن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الناس قال سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذا عام حتى في الكفار؛ ولذلك لما قصد أهل الإيمان والإرادة الصادقة قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].

ومن عدل الله سبحانه أنه لا يظلم الكافر؛ فإن الكافر إذا فعل حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه بها، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما الكافر فيعطى بحسناته ما عمل به لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015