أما صوفية المتكلمين فمراد المصنف بهم: أن علم الكلام أسسه أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة، وهو العلم الذي استعملوه في مسائل معرفة صفات الله وغيرها، وهذا العلم الشائع في كتب التعاريف وفي مقدمة ابن خلدون وفي غيره من الكتب أنهم يقولون في تعريفه: "هو تحصيل العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"، أو ما يقارب هذا المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ فإن العقل لم يذم عند السلف ذماً مطلقاً، ولا نجد في القرآن ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ذم العقل، بل في القرآن أن الله سبحانه ذكر العقل محركاً وموجباً للهداية، فنجد في قول الله تعالى في الكفار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:10] أنه لم يذكر العقل منافياً للديانة أو منافياً للإيمان، بل محركاً إليه، ولهذا لما وصف المعاندين قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
ولا شك أن ثمة عقلاً فاسداً وهو ما سماه القرآن ظناً؛ ولذلك لما ذكر الله تعالى حال المشركين قال سبحانه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23].
وأما العلم العقلي فليس منافياً للقرآن ولا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الشريعة مضت على أن الإنسان إذا سقط عقله سقط تكليفه، فكيف يقال: إن العقل معارض للأدلة؟!
والمقصود أن علم الكلام يمكن أن نعرفه بأنه: علم مولد من الفلسفة، مع جملة من كليات العقل، ومجمل الشريعة.
هذا هو علم الكلام الذي نظمه المعتزلة وأمثالهم كمقدمة لتحصيل المعرفة: هو علم مولد في جمهور مقدماته من الفلسفة، وأدخل عليه أصحابه تقريراً له بعض المقدمات الكلية من العقل الصحيح، وبعض الكلمات المجملة من القرآن، ولكن المقدمات التفصيلية فيه ليست مقدمات قرآنية ولا مقدمات عقلية صحيحة، بل هي مقدمات فلسفية، وإنما قيل: إنه علم مولد؛ لأنه ليس فلسفة صريحة منقولة، فالفلسفة المنقولة ما ظهرت إلا بظهور المتفلسفة الصرحاء كـ أبي نصر الفارابي، والحسين بن سينا، وقبل هؤلاء يعقوب بن إسحاق الكندي؛ فهؤلاء صرحوا باسم الفلسفة وانتسبوا للفلسفة انتساباً صريحاً.
والمعتزلة والجهمية -وهم الذين ابتدءوا علم الكلام في الإسلام كمقدمة للديانة وتحصيل معرفة الله وصفاته وأفعاله- كانوا مائلين عن التصوف؛ لأن هؤلاء يبنون أمورهم على العقل، والتصوف ينبني على المقدمات أو على أحوال النفس، فكانوا مائلين عنه، لكن لما ظهرت المدارس الكلامية فيما بعد والتي تسمى بمدارس متكلمة الصفاتية، وهي المدارس التي ينتسب أئمتها للسنة والجماعة، ويجافون المعتزلة وقدماء المتكلمين في أصول كثيرة، ولكنهم متأثرون بهذا العلم، بل متقلدون لجملة من أصوله، وقد انتظم هذا في مدارس مشهورة في بلاد العراق، وفي بلاد ما وراء النهر على يد أبي منصور الماتريدي في بلاد العجم.
المهم أنه ظهر في بعض شيوخ هذه المدارس من جمع بين التصوف وبين علم الكلام، ومن أوائل هؤلاء الذين مزجوا بينهما مزجاً بيناً: القشيري؛ فهو ينظم علم الكلام نظماً ويستعمله كمقدمات وكنتائج، مع أنه من كبار الصوفية.
قد يقول قائل: قبل ذلك كان الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله.
فيقال: الحارث بن أسد غلب عليه التصوف، واستعمل نتائج بعض المتكلمين وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو يعد مقدم متكلمة الصفاتية، وهو ممن ينتصر للسنة والجماعة، وإن كان بقي عليه بقية من علم الكلام؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه ودين، فكان له انتصار مشهور للسنة، وأن القرآن ليس مخلوقاً، والرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن، لكنه قال مقالته المشهورة في الصفات، أن القرآن حكاية أو عبارة، وهي مقالة لا أصل لها في كلام السلف".
المهم أن الحارث بن أسد المعروف بزهده وعبادته وأحواله أخذ نتائج ابن كلاب الكلامية، وإن كان متصوفاً، لكنه ليس كالحال التي سار عليها القشيري في جمعه بين التصوف وعلم الكلام.
ثم جاء بعد ذلك الإمام أبو حامد الغزالي فصنف كتاباً على طريقة المتكلمين من الصفاتية، أو على طريقة الأشعرية من أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو من المنتسبين للسنة والجماعة.
فلما صنف أبو حامد الغزالي بعض هذه الكتب -ككتاب قواعد العقائد وقانون التأويل وما إلى ذلك- نظمها نظماً كلامياً على الطريقة التي تقلدها أبو المعالي الجويني وأمثاله من النظار والمتكلمين، ولكنه اشتغل بالتصوف حتى غلب عليه، وفي تلك الأثناء وكأن هذا بدأ من المائة الرابعة وما بعدها- ومن يدرس في كتب أبي حامد قد يقول: إنه قد تغيرت أحواله فترك هذا العلم إلى التصوف وما إلى ذلك، فنقول: كلا! الغزالي صرح بطريقة كان ابن سينا يستعملها، وهي أن المذهب الشخصي لا يلزم أن يكون واحداً؛ ولذلك صنف أبو حامد كتباً في الوعظ معروفة وهي التي غلب بذكرها في الإتيان.
وصنف كتباً كلامية وصنف كتباً في السلوك والتصوف الخالص، ولذلك يقول ابن تيمية: "إنه من خاصة المسلمين -يعني: أبا حامد - في التأله والعبادة، وله رجوع مشهور في آخر أمره إلى الحديث والعناية به".
فيقول الغزالي مجيباً عن هذا الاختلاف في مقولته وتصانيفه: "إن المذهب ثلاثة:
المذهب الجدلي -ويعني به: مذهب المجادلة- وهذا لدفع صول الصائلين على الإسلام، ويكون بالطرق النظرية، فندفع عن الإسلام صول أهل البدع المغلظة"، ويقصد بهم الغزالي إلى المعتزلة، ثم يقول: "وندفع صول من ليسوا من أهل الإسلام"، ويقصد بهم المتفلسفة أو الفلاسفة القدماء.
ولذلك لما رد أبو حامد على الفلاسفة قال في بعض كتبه: إنا في ردنا على الفلاسفة استدعينا كلام أصحابنا المتكلمين، وكلام النظار من غيرهم، وإن كانوا يخالفونهم؛ لأننا أمام عدو قد صال على مقاصد الإسلام وأصوله.
ويقصد بهم: المتفلسفة الذين قالوا بقدم العالم ونحو ذلك، فـ الغزالي يسمى هذا المذهب: مذهب الجدل، أي: للمجادلة.
ثم يقول: "المذهب الثاني المذهب العام"، ويجعله للعامة، يقول: "ويكون هذا بالزواجر والدواعي"، يعني بالترغيب والترهيب، يقول: "هذا هو الذي يناسب حال أكثر العوام".
ثم يقول أبو حامد: "المذهب الثالث هو مذهب اليقيني"، يقول: "وهذا سر بين العبد وبين ربه، ولا يكشف منه العبد إلا القدر الذي يجوز كشفه لمن هو أهل له"، حتى إنه فصل بعض الكلام في جواب له لمن سأله عن بعض أحواله في التصوف ذكر بعض الأحوال حتى وقف ثم قال:
فكان مما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
ولـ أبي حامد ترقيات في هذا الباب من التصوف اشتد في بعضها إلى أوجه مستغربة عليه.
فالمقصود: أن مثل هذه الطريقة التي حصلت وجد من ينظر في أصوله العلمية النظرية على طرق المتكلمين، وفي مسائل السلوك ينظر على طرق الصوفية.
ومن هنا اندمج علم الكلام مع التصوف، وصار كثير من المتصوفة في أصولهم النظرية على أصول كلامية، وفي مسائل السلوك على طرق صوفية معينة تختلف درجاتها، وهذا التصوف سماه الإمام ابن تيمية رحمه الله: صوفية المتكلمين.