صوفية أهل الحديث

أما التصوف الذي أنتجه أصحابه تحت مقدمات سنية فهذا في كتب الصوفية بخاصة أهله نوعان:

النوع الأول: أعيان من العلماء والعباد المتقدمين الذين لم ينتسبوا إلى الصوفية أو إلى اسم التصوف، ولا يحفظ عنهم بإسناد متصل صحيح إليهم أنهم كانوا يسمون أنفسهم صوفية، ومن أمثلة هؤلاء: الفضيل بن عياض؛ فإن كتب الصوفية تذكره وتجعله من طبقاتها وأئمتها، كما في حلية الأولياء، وطبقات الصوفية وغيرها، مع أنه لا يحفظ -فيما أعلم- أن الفضيل بن عياض كان ينتسب هذه النسبة، وإن كان قد اشتهر بمقامات من الزهد والعبادة، لكن لم يعرف عنه أصل أو فعل -ولو دون الأصل- يخالف مقاصد الشريعة أو دلائلها، بل عامة ما نقل عنه حتى ولو خالفه غيره من الأئمة فهو مما يسع فيه الاجتهاد، فلا يصل إلى باب البدع.

فإنه من المعلوم أن المسألة إذا قبلت الاجتهاد لا يسمى أحد قولي المجتهدين بدعة، فإن البدعة ما خالف السنة الصريحة، أما ما خالف السنة باجتهاد معين فإنه لا يجوز أن يسمى بدعة، وإلا للزم أن مالكاً إذا رأى رأياً في الشريعة فخالفه الشافعي أن يسمى قول الشافعي عند المالكية بدعة، ويسمى قول مالك عند الشافعية بدعة، وهذا لا معنى له ولا وجود.

فالبدعة: هي ما خالف صريح السنة، وليس ما خالف السنة باجتهاد مجتهد، حتى لو كان المجتهد إماماً فرأى أن السنة مضت بهذا فينظر، فإن كان غيره من المجتهدين ولا سيما من السابقين له قد خالفه في هذه المسألة، ولم يروا أن السنة مضت بها وجاءت بها أو حكمت بها؛ فإن المسألة تبقى على الاجتهاد، ويختار المقلد بل وغير المقلد ما يراه أقرب إلى الدليل وأقرب إلى مقاصد الإسلام.

والمقصود من هذا أن ثمة جملة من متقدمي العباد سماهم الناس صوفية، ولم يحفظ أنهم كانوا يتسمون بهذا الاسم.

النوع الثاني: صوفية أصحاب الحديث والسنة، وهم قوم تسموا بهذا الاسم، ولكنهم لم يستعملوا أصولاً مختصة خارجة عن السنة والجماعة كالفلسفة أو علم الكلام ونحو ذلك، وإن كانوا لما حصلوا تصوفهم هذا بمقدمات السنة والجماعة، أخطئوا في كثير من التحصيل.

والإشكال الذي وقع عند هذه الطبقة -مع أن مقدماتها في الجملة هي مقدمات السنة والجماعة- هو أنهم اجتهدوا في فقه بعض إشارات القرآن -إن صح التعبير؛ لأنهم يسمونها كذلك- ففسروا بعض مقامات التعبد التي في القرآن أو في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأوجه يعلم عند المحققين من الأئمة أنها ليست في السنة، فضلاً عن أن هؤلاء العباد وإن بنوا على مقدمات السنة والجماعة لم يكن كثير منهم -ولا سيما بعد المائة الثالثة- من المعروفين بعلم الرواية والتفريق بين الصحيح والضعيف، بل التفريق بين الحديث وبين الموضوع، أي: الحديث الثابت المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الموضوعات، فبنوا كثيراً من المقامات والأحوال على أحاديث موضوعة، فجاءهم الإشكال من هذه الأوجه:

غلط في تفسير بعض كلام الله سبحانه وتعالى.

غلط في تفسير بعض أوجه التعبد بالسنة.

روايات موضوعة بنوا عليها.

فدخل على مثل هؤلاء كثير من البدع حتى تحولت إلى نوع من الالتزام والانتظام في مذهبهم.

ولذلك يغلب على هؤلاء أنهم لا يخرجون بأصول مغلظة على السنة والجماعة، وإن كان عندهم كثير من البدع في الأقوال، وكثير من البدع في الأفعال، ومحققوهم يتباعدون عن أكثر هذا، فيكون عندهم سلامة في الجملة من كثير من هذه البدع، وإن كانوا لا ينفكون عنها مطلقاً.

ثم تحصيل أحوال الأعيان هذا مما يضيق الإنسان عنه، ولا أقول: مما يضيق المقام عنه، بل مما يضيق الإنسان عنه لتعذر الوصول إلى تمامه في الجملة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015