ذلك باعتبار فقه الإجماع وفقه الدليل من الكتاب والسنة لتطبيق العمل عليه، فحينما يقال: إن هذه الأمة هي الأمة الوسط في علمها، فهي الوسط في عملها.
فعليه: يكون ميزان العمل في الإسلام هو ما مضى به الكتاب والسنة والإجماع، وأما أوجه العمل التي هي اجتهاد لبعض الفقهاء فهذه مبنية على السعة.
وأما أوجه العمل التي هي حادثة في الإسلام، فهذه لا ينبغي أن يبقى الناس على إلفها، وعليه يمكن أن نقول: إن العمل القائم في حال المسلمين ولا سيما في حال عامتهم اليوم ثلاثة أقسام:
الأول: عمل مبني على الإجماع، أي: معلوم بالإجماع كالصلوات الخمس، فهذا عمل مجمع عليه بين المسلمين فضلاً عن دلالة الكتاب والسنة عليه.
الثاني: عمل هو وجه من الاجتهاد لبعض الفقهاء، وهو إما عمل يتعلق ببعض العبادات المحكمة كالصلاة، مثل بعض الحركات في الصلاة كرفع اليدين وعدم رفعهما وكإشارة الأصبع في التشهد أو عدمها، وكوضع اليدين على الصدر أو عدم ذلك، وكالتورك وعدمه وما إلى ذلك.
أو أعمال منفكة عن عبادة معينة تقع بوحدها.
فأوجه العمل فيه بين الفقهاء الأصل فيه أنه على السعة ما دام أن هذا الخلاف خلاف معروف وتقدم معتبر.
الثالث: عمل مبتدع في الإسلام، وهذا هو الذي ينبغي أن يصرف الشأن في تصحيح أمر المسلمين فيه.
أما الوجه الثاني فلست أرى أنه من الحكمة أن يكثر مجادلة الناس فيما هو منه، حتى ولو كان المجادل يرى أن ما جادل به هو الأقرب إلى الدليل، فإن هذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن هذا الأقرب للدليل إنما هو من حيث نظره، وقد لا يكون الأمر كذلك.
الأمر الثاني: أن من مضى على تقليد إمام معتبر يمكن أن ينبه إلى الأمر باختصار، وليس بوجه من الإلزام، أو أنه إذا لم يرجع عن ذلك فقد ترك السنة والجماعة أو ترك طريقة السلف أو ما إلى ذلك.
فما كان من الخلاف المعتبر المحقق فإن شأنه على الاحتمال، إنما الذي يصرف العامة عنه ويحذرون منه هو العمل المبتدع في الإسلام، الذي لم يذكره أئمة الفقهاء فضلاً عن وروده في الكتاب والسنة، وهذا أحواله متدرجة بوجه من البدعة الحادثة، ثم إلى بدعة مغلظة، ثم إلى وجه من الشرك، أو ما يقتضي مخالفة أصول الملة مما يقع عند القبور، وإن كنت أقول: إنه ليس بالضرورة أن كلَّ ما يقع عند القبور يكون شركاً، فقد يقع عند القبور ما هو من الشرك الأكبر، وقد يقع عندها ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عندها ما هو من البدع، وقد يقع عندها ما هو من أقوال الفقهاء الشاذة.
فمثلاً: فيما يتعلق بالدعاء عند القبر، هناك رأي لبعض الفقهاء أنه يستحب أو يجوز أن يدعو الإنسان لنفسه عند القبر، لكن هذا القول قول شاذ يخالف مذهب جماهير الفقهاء المتقدمين، وكأنه يخالف إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إنما تبناه بعض أصحاب الفقهاء المتأخرين، فهذا من شاذ الأمر.
ولذلك نص بعض المحققين على أن هذا وإن جوزه بعض الفقهاء المتأخرين إلا أنه بدعة؛ لأنه لا معنى للدعاء عند القبر، وإنما الذي جاء به التخصيص هو الدعاء للميت صاحب القبر، أما دعاء الإنسان الزائر لنفسه فليس كذلك.
وقد يفعل عند القبر ما هو من البدع، كبعض الحركات والأحوال، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأكبر، وإن كان الفاعل له قد لا يكون عليماً بهذا.
ولهذا تعميم الأحكام على ما يقع عند القبور ليس له وجه، وكذلك وصف الأعيان بصفة مجملة، هذه ينبغي أن تبقى على إجمالها، أحياناً يقول البعض: فلان قبوري، وهذه الكلمة كلمة مجملة، قد يكون المقصود منها أنه يغفل عما هو من الشرك الأصغر، أو ما هو من الشرك الأكبر، أو ما إلى ذلك.
إذاً: تصحيح ما عليه أحوال المسلمين اليوم من الأخطاء في مسائل التعبد ولا سيما ما يقع عند القبور والمشاهد التي بعضها صحيح وبعضها مكذوب، هذا لا بد أن يكون أولاً بالحكمة والاعتدال؛ تقريباً للسنة ودعوة إلى النصوص وإلى صريح النصوص القاضية والملزمة للمؤمنين بترك هذه المنكرات وهذه المبتدعات.
وأن يكون باعتدال، وليس بما يحرك النفوس الجاهلة إلى التعصب لما هي عليه من الجهل.