هذه المقدمة الثانية تتعلق بوجه مختصر بمسألة العمل، وأن المخالفة فيه ظهرت من جهتين:
الأولى: جهة الحكم على يد الخوارج والمعتزلة وقابلتهم المرجئة.
الثانية: جهة التفسير على يد الصوفية، أي: تفسير العمل عندما انتظم التصوف بالمصطلحات.
إذاً: مسألة العمل في الإسلام بدأ الخلاف فيها من حيث حكم العمل ودرجته على يد الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في حكمه، وقابلتهم المرجئة الذين نقصوا حكمه، وتوسط أهل السنة بأن العمل أصل في الإيمان، مع قولهم: بأن أصل الإيمان في القلب، وهذا لا يعارض هذا، بل هما أصلان مجتمعان.
ولما جاء تفسير العمل وطريقة الوصول إليه، وتهذيب النفس وتزكيتها به، بقي القول من حيث الأصل مستقراً إلى أن جاءت المائة الثانية، فظهرت بوادر المخالفة للسنة والجماعة بأوجه من التميز عن سواد المسلمين بأوجه من التعبد، ثم تطور الأمر إلى أن ظهر التصوف المنظم بمصطلحاته التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة، لا نستطيع أن نفسرها تفسيراً نصياً من الكتاب والسنة، ولا أن نفسرها تفسيراً لغوياً، بل هي مصطلحات تفسر بمفاهيم اختلفت فيما بعد عند الصوفية، وصارت كل درجة من الصوفية يفسرون المصطلح بمفهوم يختلف عن الدرجة الثانية.
وننبه هنا إلى أنه لا يجوز أن يفسر المصطلح من هذه المصطلحات بوجه غالٍ، ثم يطرد أن هذا هو تفسير سائر طبقات الصوفية لهم.
فمثلاً: مصطلح الفناء، هذا المصطلح مقصودهم به الفناء عن وجود السوى، هذا هو الفناء إذا تكلم به ابن عربي، وأمثال ابن عربي كـ التلمساني والسهروردي وابن سبعين وابن الفارض وأمثال هؤلاء، وهو الفناء الغالي، ومنهم من يستعمل الفناء عن شهود السوى، وهذا دونه في الدرجة، وإن كان بدعة.
ومنهم من يستعمل الفناء عن إرادة السوى، أي: عن إرادة ما سوى الله، فلا يريد بعمله إلا وجه الله، وهذا المعنى -ولا أقول هذا المصطلح- يقول ابن تيمية رحمه الله: هو فناء أهل السنة والجماعة، وهو الفناء المعروف في كلام الأنبياء والرسل عليهم السلام، وإن كان لفظ الفناء ليس لفظاً وارداً في كلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز أن يحكم على وجه من الصوفية بحكم عام، أو لا يجوز أن يصدر حكم معين بدرجة ما ويجعل حكماً مطرداً لسائر طبقات أو أوجه الصوفية، بل لكلٍ ما يخصه من الحكم.