بين المصنف رحمه الله في مقدم رسالته أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم أبان بعد هذا جملاً مفصلة تدخل في هذه الأصول الشرعية، فابتدأ بذكر مسألة الأسماء والصفات، فقال: (ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل).
فهو بعد أن ذكر أصول الإيمان الستة التي هي مبنى معتقد أهل السنة والجماعة؛ ابتدأ عند التفصيل بذكر مسألة الصفات.
وقد يقول قائل: لماذا لم يبدأ بذكر مسألة توحيد العبادة؟
نجيب عن ذلك بجواب مجمل نوضح به طريقة المصنف، فنقول: إن مراده بهذه الرسالة تمييز معتقد أهل السنة والجماعة عن غيرهم، وإنما ذكر هذه المسألة -أعني مسألة الأسماء والصفات- لأنها من جهة مناطها فيها قدر واسع من النزاع بين طوائف المسلمين، وإنما علق النزاع بمناط هذه المسألة الشريفة -وهي مسألة الأسماء والصفات- لأن مبدأها الكلي ليس فيه خلاف بين المسلمين؛ من جهة أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال وأنه منزه عن النقص؛ فإن باب الأسماء والصفات محصله إثبات الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، والتنزيه له سبحانه وتعالى عما لا يليق به، فهذا القدر الكلي متفق عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من الطوائف ينازع في هذا.
وإنما اختلف أهل القبلة في مناط الكمال ما هو، وفي مناط النقص ما هو، وعن هذا تفرع نفي الصفات عند المعتزلة، ونفي جملة من الصفات -وهي ما يتعلق بصفات الأفعال- عند متكلمة الصفاتية كـ عبد الله ابن كلاب وأتباعه، وأبي الحسن الأشعري وأتباعه، وأبي منصور الماتريدي وأتباعه، وعن هذا المناط الكلي تحصَّل مذهب أهل السنة والجماعة المثبت لأسماء الرب سبحانه وتعالى وسائر صفاته التي ثبتت في الكتاب والسنة.
إذاً: إنما ابتدأ المصنف بذكر مسألة الصفات على التفصيل باعتبارها أخص مسائل النزاع بين أهل القبلة، فإن سائر ما اختلف فيه المسلمون لا يصل قدره إلى مسألة الصفات، فهي أعظم مسألة حصل فيها النزاع؛ ولهذا انقرض عصر الصحابة رضي الله عنهم ولم يحدث في هذه المسألة نزاع، بخلاف بعض المسائل كمسائل الإيمان والأسماء والأحكام، فإن النزاع فيها حصل، وقد أدرك جملة من الصحابة، وحين يقال: إنه أدرك جملة من الصحابة، لا يعني ذلك أن أحداً من الصحابة أخذ هذا الخلاف أو اعتبره، وإنما المقصود: أن بعض المسلمين قد أحدث شيئاً من البدع في مثل مسائل الأسماء والأحكام والإيمان، ومن الصحابة بقية؛ بخلاف مسألة الأسماء والصفات، فإن شأنها يختلف؛ فهي أجل مسألة حصل فيها النزاع؛ ولهذا لم يذكر المصنف مسألة توحيد العبادة المتعلقة بصرف العبادة لله وحده والبراءة من الشرك؛ لأن هذه المسألة من جهة أصولها النظرية ليس فيها نزاع بين أهل القبلة.
والمقصود بأهل القبلة طوائف المسلمين من أهل السنة أو غيرهم.
فمسألة توحيد العبادة أو توحيد الألوهية ليس في أصول مسائلها النظرية نزاع بين المسلمين.
وحين يقال: إنها ليست مسألة نزاع فهذا باعتبار أصولها النظرية الكلية، وإلا فمن جهة الوقوع ثمة خلل كبير لا يختص بأهل البدع، بل يقع حتى عند بعض العامة من أهل السنة، كمسائل شرك الألفاظ أو بعض مسائل التوسل التي هي نوع من البدع أو الشرك، فمثل هذا يقع بين جملة من العامة، فضلاً عن بعض الطوائف التي يكون منهجها موجباً لمثل هذا الجهل والغلط في توحيد العبادة، كما يقع عند جملة من الصوفية أو الشيعة أو غيرهم.
فلا نزاع في هذه المسألة باعتبار أصولها النظرية ولا أحد من المسلمين يقول: إنه يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله، وإن كان بعض أعيانهم قد يقع منه شيء من صرف العبادة لغير الله، لكن لا يتحقق له أن هذا مما يخالف القاعدة الأصل.
ويذكر بعض أهل السنة والجماعة أن المتكلمين لا يذكرون توحيد العبادة، وهذه جملة ينبغي أن تفقه على وجهها، فإنهم -أعني المتكلمين- في كتبهم لا يذكرون هذا التوحيد، ولا يبنون الأصول عليه، وهذا قدر ثابت عنهم، وأما أنهم لا يؤمنون به أو لا يعتبرونه من التوحيد أو ما إلى ذلك، فليس كذلك؛ بل جميع المسلمين يتفقون على أصل توحيد العبادة، وإن كانت بعض الأصول النظرية فضلاً عن بعض التطبيقات العملية يقع فيها خلل واسع عند جملة من العامة وبعض نظار الطوائف، وخاصة طوائف الشيعة أو طوائف الصوفية؛ ولهذا لم يذكر شيخ الإسلام رحمه الله مسألة توحيد العبادة؛ باعتبارها مسألة مسلَّمة بين المسلمين.
وأما مسألة الصفات، فكما أسلفت: قد وقع النزاع في مناطها، وأما من جهة أصلها -الذي هو إثبات الكمال لله- فهي محل اتفاق.