من مسائل هذا الباب مسألة الموازين، والموازين والموازنة ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، وهي صريحة في القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى ذكر الموازنة في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47]، وكقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، وكذلك من النصوص النبوية.
فالموازنة: متفق عليها بين سائر السلف، لكنهم يقولون: الله أعلم بماهية هذه الموازنة وحقيقتها، وإنما الذي دلت عليه النصوص صريحاً هو إثبات الموازين والموازنة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم العبد شيئاً.
وكلام بعض متأخري أهل السنة في تفصيلهم للموازنة ليس له -فيما يظهر بالتتبع والله أعلم- أصل في كلام السلف، ولا في القرآن والسنة، وهذا الكلام أول من قاله هو ابن حزم رحمه الله.
فإن قاعدة السلف في أهل الكبائر من المسلمين أنهم تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى بدليل قول الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه المشيئة المعلقة في القرآن في أهل الكبائر قد ذكر ابن حزم تفصيلاً لها، وقال: إن هذا التفصيل هو التحقيق لأصل الموازنة المذكورة في القرآن، قال: (إن من زادت حسناته على سيئاته من أهل الكبائر واحدة -أي: حسنة واحدة- فهذا يغفر له، وإن من زادت سيئاته على حسناته من الموحدين سيئة واحدة فهذا يعذب في النار)، (فمن لفحة في النار إلى خمسين ألف سنة في النار).
قال: (ومن تساوت حسناته مع سيئاته من الموحدين، فهذا يحبس -أي: يوقف- عن الجنة ولا يدخل النار، ثم يدخل الجنة).
ثم قال: (وهؤلاء هم أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]).
هذا القول ذكره ابن حزم، وإن كان لم يصرح أنه إجماع عند أهل السنة والجماعة، فجاء بعده ابن القيم رحمه الله وانتصر لهذا القول انتصاراً مطلقاً، ونقل أن ابن حزم حكى الإجماع عليه، وجزم ابن القيم بأن هذا القول هو قول الصحابة والتابعين، حتى قال رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين): (وأما قول الصحابة والتابعين، فإن كثيراً من الناس لا يعرفه، وهو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم)، ثم ذكر التفصيل المنقول عن ابن حزم، فقال: (إن من تساوت حسناته هم أهل الأعراف يحبسون، ومن زادت سيئاته واحدةً يعذب في النار، ومن زادت حسناته واحدةً يغفر له، ويدخل الجنة)، فجزم بهذا القول، وجعله قول الصحابة والتابعين، وقال: (إن خلافه هو قول المرجئة)، وذكر أقوالاً منكرة في هذا الباب، وهي من البدع المعروفة عن المرجئة، ولا شك أنها أقوال غير صحيحة بمعنى أنه إذا قيل: إن قول ابن القيم ليس صحيحاً، فلا يلزم من ذلك أن يكون الصواب هو أحد الأقوال التي ذكرها، فإنه ذكر للناس أقوالاً في هذا ثم قال: (إن هذا ليس إلا قول المرجئة، وأما الصواب المأثور عن الصحابة والتابعين ...) فذكره.
والصواب أن يقال: إن كل الأقوال التي ذكرها ابن القيم ليست صحيحة، فيوافق على أن ما ذكره من أقوال الطوائف ليس صواباً من جهة السنة، لكن القول الذي انتصر له إنما أخذه عن ابن حزم.
وابن القيم رحمه الله إذا انفرد في مسألة فيها غرابة ففي الغالب أن مادته فيها من ابن حزم، سواء في مسائل الاعتقاد التي قد لا تكون أصولاً، أي: محلها القلب، وهي مسائل السمع، أو مسائل التشريع ومسائل الفقه، فإنه قرأ لـ ابن حزم كثيراً كـ ابن تيمية رحمه الله؛ فإن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية من أكثر من قرأ لـ أبي محمد ابن حزم، ولكن استفادة ابن تيمية من ابن حزم كانت أحكم، ولذلك لم يدخل معه في أصل مشكل، بخلاف ابن القيم، فإنه قد يأخذ عن ابن حزم بعض الأصول أو المسائل التي ليست محققة، ويستعمل أحياناً طرقاً في الاستدلال ليست منضبطة، كاستعماله لطريقة التضمين والتلازم في المسائل، ونفس ابن حزم في هذا الاستعمال كبير، كاستعماله لطريقة الفهم في أقوال المتقدمين أحياناً، إذا أراد أن ينتصر لقول ما وأن هذا القول هو قول لفلان وفلان من أعيان السلف، فيأخذ من أقوالهم بالفهم، فهذه الطريقة أحياناً ينتحلها ابن القيم، وإن لم يكن كـ ابن حزم فيها.
والمقصود: أن هذا القول غلط من جهة الدليل، وليس صواباً، وابن القيم رحمه الله مادته في هذه المسألة منقولة عن ابن حزم، فإنه أول من تكلم بهذا.
والصواب هنا -طرداً للقاعدة السابقة-: أن يقال: إن هذا مما سكت عنه القرآن والسنة.
أما استدلال ابن القيم وابن حزم بقول الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102 - 103] وبالمقارنة التي جاءت في سورة الأعراف وفي سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، فليس صواباً، لأنك إذا قرأت هذه المواضع في القرآن وجدتها صريحة في سياق المسلمين والكفار، فإن الله يقول في سورة المؤمنون: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:103 - 105].
فالآيات صريحة أنها في المسلمين والكفار، فإذاً هذا النوع من الدليل ليس محكماً.
وأما قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] استدل بها ابن القيم وابن حزم فقالا: (والقسط هو العدل، والعدل أن من زادت حسناته فهو كذا، ومن زادت سيئاته فهو كذا)، فهذا ليس صواباً، وإنما العدل هو عدم الظلم؛ ولذلك إذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى: يغفر لمن زادت سيئاته على حسناته سيئة واحدة، لم يكن هذا منافياً للعدل؛ إنما الذي ينافي العدل هو الظلم، كقول المرجئة الواقفة: إن الله قد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، فهذا من الظلم الذي لا يمكن أن يكون عدلاً منه سبحانه وتعالى، والقصد أن الاستدلال بالآية ليس له وجه.
وأما قول ابن القيم: (هذا هو مذهب الصحابة)، فبناه على آثارٍ منقولة عن طائفة من الصحابة في آيات الأعراف، والآثار عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفة بن اليمان.
قال ابن مسعود: (أن من زادت حسناته واحدة، فهو إلى الجنة، ومن زادت سيئاته واحدةً فهو إلى النار، ومن استوت حسناته وسيئاته، حبس) هذا الأثر عن ابن مسعود ونحوه عن ابن عباس وحذيفة بن اليمان، رواه ابن جرير في تفسيره، وهي ليست صحيحة من جهة الإسناد عن الصحابة؛ ولذلك أعرض عنها ابن جرير، مع أن قاعدة ابن جرير في تفسيره: أن الصحابة إذا كان لهم قول، ولم ينقل قول مخالف عن الصحابة أنفسهم، وإنما المخالف من التابعين أو من بعدهم، فإن ابن جرير رحمه الله ينتصر بقوة لقول الصحابة.
وفي تفسير ابن جرير لهذه الآية لم ينقل عن طائفة من الصحابة ما يخالف هذا القول، وإنما نقل عن طائفة من غير الصحابة، ومع ذلك لما انتهى من عرض المسألة رجح رحمه الله التوقف في أهل الأعراف، وهذه إشارةٌ منه إلى أن الأسانيد عن الصحابة عنده ليست مقبولة.
والأسانيد إذا نظرت إليها وجدتها معلولة من أكثر من جهة، أقربها وأدناها إلى النظر أنها منقطعة.
فالمقصود أن كثيراً من المفسرين يرجحون الوقف في أهل الأعراف، وهذا هو المذهب الصحيح، وإنما الذي أخبرنا القرآن به عن أصحاب الأعراف: أنهم رجال، خلافاً لقول أبي مجلز أنهم ملائكة، وهذا غلط، لأن الله قال: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] ولذلك ابن جرير لم يبطل من الأقوال شيئاً إلا القول المأثور عن أبي مجلز أنهم ملائكة، فقال: إنهم رجال بنص القرآن.
وللمفسرين في أهل الأعراف ما يقارب الثمانية أقوال، وعلى قول ابن القيم وابن حزم يلزم أن أهل الأعراف قد أجمع الصحابة وأئمة السلف على تفسيرهم بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا ليس فيه إجماع، بل الصواب في أهل الأعراف أنهم الله أعلم بهم.
والوقف في هذا النوع من آيات القرآن أو من الدلالات هو المنهج المحقق، وليس الترجيح للتفصيل هو المحقق دائماً.
فإن الراجح دائماً والتحقيق دائماً: هو حسن الأخذ لدليل القرآن أو السنة، هذا هو الترجيح الصواب، وهذا هو التحقيق للعلم الشرعي، وهو أن يأخذ الناظر في الأقوال أقرب الأقوال إلى الدليل.
فنقول: إن التوقف هو الأقرب إلى الدليل؛ لأن الدليل مجمل من كل جهة، فمهما استعملت فيه من أنواع الدلالات لا تستطيع أن تفك هذا الإجمال، فيبقى هذا الدليل مجملاً، فيكون الراجح في أهل الأعراف الإجمال، والإجمال هنا التوقف في شأنهم.
وهناك فرق بين إنكار الموازنة وبين إنكار هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم؛ فالموازنة مجمع عليها، أما هذا الق