وقالوا: "هو جارِي بيتَ بيتَ"، يريدون القُرْبَ والتلاصُقَ، وهو مركّبُ أيضًا مبنيٌّ على الفتح كـ "خمسةَ عشرَ"، والأصلُ: بيتًا لبيتٍ، أو بيتًا فبيتًا، أو بيتًا إلى بيتٍ، فحُذف الحرف، وضُمّن معناه، فبُني لذلك، وهما في موضع الحال، كأنّك قلت: هو جاري مُلاصِقًا، والعامل في الحال ما في "جاري" من معنى الفعل. ولا يجوز تقديمُ الحال فيه على العامل، لو قلت: "بيتَ بيتَ هو جاري"، لم يجز؛ لأنّ العامل ليس فعلًا، ولا اسمَ فاعلٍ، ويجوز التقديمُ في "كفّة كفّة"، فتقول: "كَفَّةَ كَفَّةَ لقتُه", لأنّ العامل فعلٌ. ولو قلتَ: "جاوَرَني، أو مُجاوِري بيتَ بيتَ"، جاز التقديمُ حينئذٍ، فتقول: "بيتَ بيتَ هو مُجاوِري"، فتُقدِّمه؛ لأنّ العامل اسمُ فاعلٍ، واسمُ الفاعل يجوز تقديمُ منصوبه عليه، ولو قلت: "بيتَ بيتَ جاوَرَني"، لكان بالجواز أجدَر، إذ كان فعلًا، فاعرفه.
وقالوا: "وقع هذا الأمرُ بَيْنَ بَينَ"، فيبنونهما اسمًا واحدًا، لأن الأصل: بينَ هذا، وبينَ هذا، فلمّا سقطت الواوُ تخفيفًا والنيّةُ نيّةُ العطف، بُني لتضمُّنه معنى الحرف، وهو في موضع الحال أيضًا، إذ المرادُ بقولهم: "وقع بينَ بينَ"، أي: وَسَطًا، فأمّا قول عَبِيد بن الأبْرَص [من مجزوء الكامل]:
نَحْمِي حَقِيقَتَنَا وبعـ ... ــضُ القَوْمِ يَسْقُطُ بَيْنَ بَيْنَا
فهو شاهد على صحّة الاستعمال، والحقيقةُ ما يجبُ على الرجل أن يحميه، يُقال: "رجلٌ حامِي الحقيقةِ"، أي: شَهْمٌ لا يُضام له حَرِيمٌ.
* * *
قال صاحب الكتاب: وأتيته صباحاً ومساءً، ويوماً ويوماً"، أي كل صباح ومساء, وكل يوم, و"تفرقوا شغراً وبغراً"، أي منتشرين في البلاد هائجين, من "اشتغرت عليه ضيعته", "إذا فشت وانتشرت"، و"بغر النجم": هاج بالمطر. قال العجاج [من الرجز]:
657 - بغرة نجم هاج ليلاً فانكدر