. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
سُلِّم صحةُ هذا القياسِ, لَكَانَ مُوجِبُه تَرْكَ العملِ بجميع النَّصِّ؛ فإِنَّ مَنْ عَدَّ إبليسَ من الملائِكَةِ، كان أصلُهُمْ إِما مثْلَهُ أوْ أشرَفَ منه؛ فإنهم من نُورٍ، ونحن نسلِّم أنَّ القياس المقابِل للنص باطلٌ وفاسدُ الوَضْعِ.
والتحقيقُ في الجوابِ -وقد أومأ إليه بقوله: "إِلا إِذا ظَهَرَ قيامُ المعارِضِ"- يعني: أنَّ حق المفاضِلِ بين شَيئَين أن يجمَعَ جميعَ وجُوهِ الشَّرَفِ والكمال، ويقابل المَجْمُوعَ بالمجموعِ، وينظُرَ ما بَينَهُمَا مِنَ التفاوُتِ في الكيفيَّة والكمِّيَّةِ، وَيَعْلَمَ درجاتِ الزيَادَةِ والنقْصِ -كالمعدل في القَسْم- ثم يَحْكُمَ بعد الخبر بالرُّجْحَانِ، وقد أسقط إِبليسُ ما خَصَّ الله تعالي به آدَمَ من التكريمِ والاصطفاءِ، وتَعْلِيمِ الأسماءِ، ورجَّحَ من المادَّةِ بخاصَّة، فكَيفَ يَصِحُّ هذا القياسُ؟ !
قوله: "الحُجَّةُ الثالِثَةُ: أنَّ الله تعالى حكَى عن الكُفَّارِ أنهم قالوا: {إِنَّمَا الْبَيعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة 275] ومعناه: أنه لا فرق بين أن يُشْتَرَى الكِرْبَاسُ بالدِّينَارِ، ثم يباع الكرباس بالدينارَينِ، وبين أنْ يُبَاعَ الدينارُ بالدينارَينِ، ثم إِن الله تعالى إِنما أجَابَ عن هذا السُّؤَالِ بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فلولا أنَّ النصَّ خَيرٌ من القياسِ، وإِلَّا لصار هذا الجوابُ باطلًا، ولَصَارَ قياس الكفار حَقًّا":
والجوابُ عما ذَكَرَهُ: أنَّ هذا إِنْ صَحَّ كما قرَّره، فَلَيسَ من باب التخصيصِ، وإنَّمَا هو من فساد الوضعِ، وهو إِسقاطُ مُوجِبِ النَّصِّ جملةً؛ فالقياس والتخصيصُ جَمْعٌ في العَمَلِ بين الدليلَينِ، فَشَتَّانَ ما بين البَابَينِ.
قوله: "الحجة الرابِعَة: أَنَّ الدليلَ علَى إِثبات القياسِ قولُهُ تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2]، وقولُ مُعَاذٍ: "أَجْتَهِدُ رَأْيِي" ... والإجماعُ. ولكنْ إنَّما يمكنُ إِثباتُه بعموماتٍ ضعيفةٍ؛ كقوله تعالي: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115]، و {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وعلَي هذا: لا يمكنُ إِثباتُ القياسِ إلَّا بعموماتٍ ضعيفةٍ ... " إلى آخره:
الحاصلُ: أنه يَزعم أنَّ أدلَّة القياس ضعيفة، وأن الإجماعَ الَّذي استند إلَيهِ القياس في غاية الضَّعْفِ؛ فإِنها عموماتٌ بعيدةٌ قابلةٌ للتأويلات القريبَةِ، وأن القياسَ الَّذي وجب العَمَلُ به إنَّما يَدُلُّ بعد إِثباتِ مقدِّماتٍ كثيرةٍ، وهي ثبوتُ الحُكْمِ في الأصْلِ، وثبوتُ دليلٍ يَدُلُّ على تعليلِهِ، ودليلٍ علَي تعليلِهِ بالعلَّة المعيَّنة، ودليلٍ علَى انتفاءِ الموانِعِ في الأصْلِ، ودليلٍ على تحقيقِ ذلك المَعْنَى في الفَرْع، ودليلٍ على انتفاءِ ما يعارِضُهُ في الفَرْعِ، وهذه مقدِّماتٌ كثيرةٌ، والعَمَلُ بالعمومِ لا يتوقَّف إلَّا علَى مقدِّمة واحدةٍ، وهي بيانُ أنَّ هذا العامَّ متناولٌ لهذا الفرد، فاحتمالُ الغَلَطِ فيه أقَلُّ؛ فالعمل به أولَى.
والجوابُ أنْ يُقَال: لا مُسْتَندَ للعَمَلِ بالعمومِ إلَّا الإِجماع؛ فإن العمل به عَمَل بالظَن، فلولا إِسناده إلى الإِجماع القاطِعِ، لَمَا وَجَبَ العَمَلُ به، فإذا كان الإجْمَاعُ إنَّما عُمِلَ به للعمومات، كان دَوْرًا، ولزم ألا يكونَ العُمُومُ حجةً. ثم لو سَلَّمنا أنَّه دليلٌ على الجملةِ، لكنَّه ظنيٌّ،