احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ بِحُجَجٍ:
===
قولُهُ: "الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في القِيَاسِ:
إِذا فَهِمْتَ معنى القِيَاسِ وَحَدَّهُ وتمثيلَهُ وانقسامَهُ إلى عقليٍّ وشرعيٍّ - فقد اختلَفَ الناسُ فيهما: فأنكرهما الحَشويَّةُ، وأَثْبَتَهما الجماهيرُ، وردَّتِ الحنابلةُ قياس العَقلِ دون الشَّرْعِ، وَردَّ النَّظَّامُ مُعْظَم قياسِ الشَّرْعِ دون العَقلِ، ورَدَّ الإمامُ في "البُرهَانِ" قياسَ الغائِبِ على الشَّاهِدِ بالجَوَامِعِ الأربعةِ؛ أعني: العِلَّة، والدَّلِيلَ، والشَّرْطَ، والحَقِيقَةَ.
وقال: الدَّلِيلُ المذكورُ لا يَخلُو: إِما أن يتحقَّق في الغائِبِ حيثُ تَحَقّيقُهُ في الشاهدِ أَو لَا: فإن لم يتحقَّق، فلا دَلالةَ، وإن تحقَّق، فلا حاجة إلى الشَّاهِدِ.
ورُدَّ عليه: بأنه مِنَ الشاهِدِ يعرف كونه دليلًا فيطرد في الغالب فلا يستغنى عن المشاهد فإنه لا معْنَى للدَّليل إِلا وجودُ مستَلزِمٍ للحُكمِ؛ فلا بُدَّ من بيان اسْتلزامِه للحُكم؛ ومعرفةُ ذلِكَ من الشاهد، وهي المقدِّمة الكُبرَى، ولا بد من بيانِ وجُودِهِ في المَحْكُومِ عليه؛ أَغنِي: تحقُّقَهُ في الغائِبِ، وهو المقدِّمةُ الصُّغرَى.
واسْتَضعَفَ الفَخرُ قياسَ العَقلِ بأنَّ إِسقاطَ تعيُّنِ الأَصْلِ عن التَّأثِيرِ، وتعيُّنِ الفَرْع عن المانعيَّة - عَسِيرٌ، قال: والمُشكِلُ فيه تحقيقُ أن الحُكمَ في الأَصْلِ باعتبارِ المشتَرَكِ، والقَطعَ بهِ عَسِيرٌ، والدَّوَرَانُ -وإن اعْتَمَدَ عليه المعتزلةُ- فلا يفيدُ إلا الظَّنَّ، والمقصود بالبَحْث هَهُنَا هو الشرعيُّ، وأصولُ المذاهِب فيه ثلاثة:
الأوَّلُ: أنَّه يمتنعُ التعبُّد به عَقْلًا، والقائلون بذلك اختلفوا:
فمنهم: مَنْ خصَّ ذلك شرعيًّا، وهو النَّظَّامُ، وساعَدَنَا على العَمَلِ بالقطعيِّ منه، والمنصوصِ على علَّته.
ومنهم: مَنْ لم يَخُصَّهُ، وهو بَعْضُ المعتَزِلَةِ والخَوَارج والرافضَةِ إلا الزَّيدِيَّةَ.
ثم اختلف المانعُونَ في مأخذ المَنْع:
فمنهم: مَنْ رَدَّهُ؛ لأنه لا يفيدُ عِلْمًا ولا ظَنًّا في زَعْمه.
ومنهم: من سلَّم إفادته لِلظَّنِّ، وزَعَمَ أن التعبُّد بِهِ توريطٌ في الجهالات.
ومنهم مَنْ قال: الظَّنُّ قبيحٌ؛ لأنه ضِدُّ العلْمِ المحكوم بحُسْنِهِ، والقبيحُ لا يُؤمَرُ به؛ ومِنَ القائِلِينَ بذلكَ أَبُو هَاشِم، وقد قال: أَوَّلُ واجِب الشكُّ، والشَّكُّ في الله كُفرٌ، وهو قبيحٌ لعَينه، والغفلةُ والغَشيةُ مِن أضَداد العلْم، وقد سلّم أنَّهما من أفعال الله تعالى، ومن أصْلِهِ أن الله - تعالى - لا يَفْعَلُ ما يقضي العَقلُ بقُبْحِهِ، وقد ساعَدَ أَيضًا على العَمَلِ بما نَصَّ عليه الشارعُ من تشْبِيهٍ وتمثيل؛ كقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ الْنَّعَمِ} [المائدة 95].
المذهب الثاني: أَنَّه لا يمتنعُ التعبُّد به عَقْلًا، لكن لا يجوزُ العَمَلُ به شَرْعًا، والقائلون بهذا