أي عَذَبتُ نفسي بحب هذه التي قتلني حبها بالشيب. فأما تغذيتي نفسي بالحب ففي حال طفولتي، وأما في الشيب، ففي حال بلوغي الحُلُم، أي هَويت وأنا طفل، وشِبْت من ذلك الحب وأنا مُتِلمٌ، فجَعلَ الحُبَّ والشيب لنفسه غذاءين وهما مُهلكان لا مُتَمّنيان. والياء في تغذيتي تكون في موضع الفاعل، فيكون المفعول حينذ محذوفاً، أي تغذيتي نفسي، كما تقول: عجبت من ضرب زيدٍ عمراً. ويجوز أن تكون في موضع المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، أي غُذِّيت. وهَواى: يجوز أن يكون مبتدا وخبره الحال الذي هو طفلٌ كقولك: أكْثَر شُربي السَّويق ملتُويا، والقول في يبي وبالغَ الحلم، كالقول في هَوَاىَ طِفلا. وكأنه قال: بالغاً الحُلُم.
ويجوز أن يكون هَوَاى في موضع جر البَدَل من حُبيِّ، وشَيْبي حينئذ في موضع جرِّ معطوفٍ على هَواى. والأول أقوى.
) شَيخٌ يرى الُصلوتِ الخمسَ نافِلةً ... ويَستَحِلُّ دَمَ الحُجّاج فب الحَرمِ (
يعني بالشيخ هنا: المجَرب إذ لا تكون التجربة لغير ذوى السِّن والحنْكَة، كقول الرياحيّ:
أخو خمسين مُجْتَمِعٌ أشُدِّى ... ونَجَّذَنِى مُداوَرَةُ اُلْشُّئُونِ
وفي كلامهم: ابن خمسين: ليث عِفرِّين، وقد قال هو في موضع آخر:
) سأطلب حَقىِّ بالْفتاَ وَمَشاريخ ... كأنهمُ من طول ما الْتَثَمُوا مُردُ (
مشايخ: جمعَ مشيخة ومَشْيُوخاء على حذف الزائد.) يرى الصلوات الخمس نافلة (: أي أنه لا يعني بمفروضات الدين، ولا تمنهُه مما يشاء إذا أمكنه ما طلبه. ويستحيل دم الحُجاج في الحرام: أي أنه مبالغ في المضاء والنفاذ، حتى لا يردهّ التحرُّج الذي يوجبه الدين فضلاً عما سواه. ويرى هاهنا: من رؤية القلب، لأن الصلاة فعل عَرضي ليس بجوهر محسوس، فتكون حاسّة البصر واقعة عليه. وفي الحَرَم تتميم بديع.
) وَرَبَّ مال فقيراً من مُروَّته ... لم يُثْرِ منها كما أثْرى من الْعَدمِ (
أي أن اللئيم الغنىَّ يمنع نفسه خظَّها، والفقير السَّمْح إذا وجد أعطاها حظَّها، فالفقر مع السماحة أجدى على صاحبه من الغنى مع اللؤم، كقول حسان بن حنظلة:
إنا لَعَمْر أبيك يَحْمد ضيفُنا ... وَيَسودُ مُغْتَرِباً عَلَى الإقلال
وتقدير البيت: ليم يثر هذا اللئيمُ الغنىُّ من غناه، كما أثرى هذا الفقير السَّمْح من العَدم.
وقد يجوز أن يَعْنَىِ أن ثرثرة هذا اللئيم الغنىِّ من الفقر، وأكثر من ثروته من الغنى، أي أن حالة المُعدِم أظهر من حالة الغَنِىِّ.
فأما قوله:
) يَجْنِى الْغِنَى لِلِّئَام لو عَقَلوا ... ما ليس يَجْنى عليهمُ العَدَمُ (
فمعناه المبالغة. أي أنهم يمنعون أنفسهم حظَّها في حال الغنى، فلا يُقَدَّرُون بل يُذمُّون بظهور حال الفقر عليهم، وإن كانوا أغنياء. وأما إذا ظهرت عليهم حال العُدْم وهو مُعدمون، فلا ذُمَّ عليهم، بل عذرهم في ذلك بَيِّن.
وله أيضاً:
) حَاشَى الرَّقيبَ فخانْته ضمائرُهُ ... وغَيَّض الدَّمعَ فانهلَّت بَوادِرُهُ (
يُريد: استَثْنىَ الرقيبَ، وأخرجه مما كان يعرف سَّه، لأنه كان في أول أمره يبوح بسره إلى بعض إخوانه، ويخفى ذلك عن الرقيب. فلما تمادى ذلك به أفرط عليه، إلى أن بخل وبكى، وذل وشكا، فعلم الرقيب ذلك منه.
) غاَب الامير فغابَ اّلخيرُ عن بَلدٍ ... كادَتْ لفَقْدِ أسمِه تبكى مَنابُره (
كان الأمير المجهول مخطوباً له بحمص أيام ولايته إياها، فأزيل عنها فانقطع الاختطاب باسمه على منابر هذه المدينة، فحنت المنابر وبكت لذلك.
) قد اشْتَكَتْ وَحْشَةَ الأَحْياء أَربُعُةُ ... وخَبَّرتْ عن أَسىَ الْمَوتَى مَقاَبِرُهُ (
الهاء في مقابره: للبلد ذاك، كما كانت في المنابر له. أي تَوحَّش إليه الأحياء، وهذا ممكن، والأموات، وهذا غير ممكن، لكنه بالغ بالموتى، وأفرط بقوله: إنَّ المقابر مُخْبرة عن أسىَ الموتى، فالنصف الثاني أغلى من الأول، لأن الأحياء يتوحَّشون، وإن كان فيه غثلُوٌّ أيضاً لإسناده الشكوى إلى الأربُع فيه. وكأن الأربُع إنما اشتكت رقَّةً لما تراه من توحُّش أهلها، وبُعداً بذلك.
وإن شئت قلت: خُلِّيت الأربع بعد المير من سكانها، فتشكت توحُّشها إلى الأحياء) وهذا (أولى. لتطابق إسناد الأسى إلى الموتى.