أي أنه ماضٍ يقطع كل عضو يلقاه، حتى ينتهي إلى القلب، فكانه إنما قطع مادون القلب من الأعضاء حين رأى القلب، فَهَتَكَ اليه الحُجُب التي دونه، إذ لم يمكنه الوصول اليه إلا باختراقها الهَبْوة، وأراني هنا: من رُؤيْة العين، لأنها غير متعدية، فكان يجب أن يقول: لا أرى نفسي، لأن فعلَ الفاعل إذا كان حِسِّيًّ، لم يتعد إلى ذاته بكناية المتكلم. لايجوز ضربتُنى، وإنما يتعدى فعل الفاعل إذا كان حِسيَّا إلى ذاته بلفظ النفس. ويقولون: ضربت نفسي وفي التنزيل) رَبناَّ ظَلَمنا أنفسنا (إلا أنه جاؤ عنهم فَقَدْتُني وعَدْمتُني، وهذا نادرا غي معمول به.
لكن لما كانت ارى التي هي للعين مطابقة اللفظ لآرى التي هي للقلب، تتعدى على هذه الصورة، لأنها غير حِسَّية، كقولهم: أراني ذاهباً. اسجاز أن يُجرِىَ) أرى (التي للعين مجراها.
وعلى هذا أوَجّه أنا ما خكاه سيبويه من قول العرب: أما تَرىَ أي برق هاهنا؟ فعُلقِّت فيه أرى. ورؤية العين لاتُعلَّث وإنما تعلق رؤية القلب، ورؤية القلب بَصَرية لا نفسانية. لكنها لما طابقت في اللفظ) ترى (التي هي للقلب، وكانت هذه تعلق استجازوا تعليق التي للعين. على أن الفارسي قد ذهب في هذا الذي حكاه سيبويه إلى أنها رؤية قَلْب.
وله أيضاً:
) رَمَاني خِسَاسُ النَّاس مِنْ صَائِب اسْتِهِ ... وآخر قطنٌ من يديه الْجَنَادِلُ (
يذهب إلى أن عدوه ضدٌ له. هُوجَمُّ الفضائل، وعدوه جَمُّ النقائص والرذائل، ولذلك وقع بينهما التنافر، لأن الذِّد مُحارب لضده، والشكل مُسالُم لِشَكله فهو يقول: لايعاديني إلا ناقصٌ لجرى العادة بمعاداة ذى النقص لذى الفضل. فإذا عاَبنَى - والإجماعُ قد وقع على فَضلى - فهو لا محالة ناقص وقد صرح عن ذلك بقوله في الأخرى:
وغاذ أتتكَ مَذَمَّتى من ناقٍ ... فهي الشهادةُ لي بأنى كَملُ
أي أنه لو كان فاضلا مِثلي، ما ذَمنَّي لِتَشَا كلُنا في الفضل، ولأنه لو كان فاضلاً لنَقَص وفَضَلت. فأوجب ذلك تَضَاداً وتعادياً كقول أبى تمام:
لقد آسفَ الأعداءَ مجدُ ابن يوسُفٍ ... وذُو النقص في الدنيا بذى الفضل مُولعُ
وقوله:) مِن صائب استِهِ، وآخر قُطن (ك أراد من بين صائب يرميه وآخر هذه صفته، أي أنه ضعيف يُعدِى ضعفُه الجَنْدل فيضعف، حتى لايُؤثِّر كما لا يؤثر القطن إذا رُمِىَ به.
وصائب استه: أي مُصيبها. يقال: صاب الشيء وأصابه.
وخص ذكر استه من بين سائر الأعضاء لوجهين: أحدهما: قصدُ الاستخفاف به في ذكر ذلك منه، والآخر أن هذا الناقص المتنقِّص لي مغلوب مهزوم. والمهزوم لا يقع سلاحه إلا على مايلي ظهره، فخص هذا العضو للأمرين جميعاً.
والأجودُ عندى أنه إنما قصد الاستخفاف، والشّتْم، والسَّب بلك كثير. ولذلك سميت الاست السَّبَّو والسَّبَ.
وأصل الناس: الأناس، حذفوا الهمزة لكثرة استعمالهم إياه، وذلك مع اللام، وقد جاء محذوفاً ولا لام فيها، كما جاءت الهمزة فيه مع اللام فيما أنشده أبو عثمان من قول الشاعر: إنَّ المنَايا يَطَّلِعْن على الأناس الآمنينا ولما ذكر سيبويه اسم الله تعالى، وكون الألف واللام فيه خَلفاً من الهمزة قال: ومثل ذلك. أناس: فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس. إلا أن الناس قد تفارقهُ: الألف واللام ويكون نكرة. والله تعالى لا يكون فيه ذلك، وهو فصل معروف في باب ما ينتصب على المدح والنعظيم والشيم في باب النداء.
وقوله:) وآخَرَ قُطن (الجدي في قُطن الرفعُ، لأنه جوهرٌ والجواهر لا يوصف به. إلا أن الجر في مثل هذا قد يَسُوغ، وذلك على توهُّم الصفة، يُقدر الجوهر صفة بقدر ما يحتمله وضعه، نحو ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: مَررتُ بسرجٍ خَزٍّ صُفّتُه، لأن الخز وإن كان جوهراً فهو في معنى لَيِّن، صفة قال: الفارسي: كأنهم يقولون:) مررت بقاع عَرْفَج كله (. فيجعلونه كأنه وصف. قال الفارسيّ: كأنهم يقولون: مررت بقاع خشنٍ كله. وإنما قَدَّره بخَشِن، لأن العَرفج شاك، والشوكُ خَشِنُ المس. فاذا جَرَّ فقال:) وآخر قُطنٍ من يديه الجنادل (فكأنه قال: وآخر لين أو ضعيف من يديه الجنادل.
) ومن جاَهِلٍ بِى وَهْوَ يَجْهلُ جَهْلَه ... وَيَجْهلُ عِلْمي أَنَّهُ بِىَ جَاهِلُ (