فتلاده عندي - منصوب بالظرف، كما أنك لو أظهرت المضاف المحذوف فقلت: مكام تلاده، كان منصوباً على الظرف، فلما حًذف المضاف عمل الفعل في المضاف اليه ذلك العمل نفسه، كقوله تعالى:) واسْألِ القرية التي كُنَّا فِيهَا (. ولو قال:) تلادُه (، فرفعه بالمُقتنى على السعة لجاز. أي كأن ماله يدعوه أن يبذله فَيقفُوه بذلك فخراً. فكأن المال هو المقتنى له ذلك ولا كلام في قوله:) ومُجتنب البخلِ اجتناب المحارم (لظهوره.
) كأنك ما جَاوَدْتَ من بان جُودُه ... عليك، ولا قاومت من لم تُقاوِمِ (
إن شئت قلت: إن حساد جاودُوك في الجود والبأس، حتى غلبتهم فيهما، فكأنك بعد غلبك إياهم ما جاودوك ولا قاتلوك. ثم جعل للقضية مثلاً مطلقاً، أي أيها الانسانُ من غلبك بعدما غلبته فكأنك ما غلبته، وإن شئت قلت: كل من جاودته فْقته، وكل من حاربته غلبيته، حتى كأنك إنما اخترت من المُجاوين والمحاربين من وثقت بظهورط عليه؛ ولم يكُ ذلك قصدك، اذ لو كان ذلك لم يك محموداً منك، لانك لم تَشْجُع إلا على من علمت أنه دونك ولا جاريت في الندى إلا من علمت أنك فوقه. هذا كله لا يُمدح به. ولكنك إنما كنت الظاهر على المجاودين المحاربين، بفضيلتك النفسانية، ومزيتك الطبيعية إلا أنك اخترت من هو دونك. وقوله:) من لم تقاوم (كقوله: ولا قاتلت من بانت شجاعته عليك، فهذا اللفظ المسلوب في المعنى لفظ آخر مُثبت وإنما ذكرت لك هذا لتثبت قدمك في تبينُّه.
وله ايضا:
) غَدَا الناسُ مِثْلَيهِم به لاعدمْتُهْ ... وأصبح دهرى في ذَاِرهُ دهُورا (
أي فيه من الفضائل مافي كل الفضلاء. فقد صار الناس به ناسين. ولا يعني بالناس جميع نوع الإنسان، لأن في جماع النوع رفيعاً ووضيعلً، وإنما عنى بالناس الفضلاء من الناس، ولولا ذلك لم يقتض مدحاً، كقول أبى نواس:
لَيْس على الله بُمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
لم يرد العالم كله، إنما عنى رُفعاءهم وخيارهم.
) وأصبح دهرى في ذراه دهورا (
يقول: جنيت من لذيذ تمر العيش في دهرى عنده، ماجناه أهلُ كل دهر من حُلو تمر دهرهم، فصار دهرى بذلك دهوراً.
وله ايضا:
) وَكَمْ من عَاثبٍ قولاً صحيحاً ... وآفَتُه من الفهمِ السقيم (
قد يكون القول صحيحاً في ذاته، ولا تلوح صحته إلى الجاهل به، فيعيبُه، لانه يظنه على خلاف ما هو به. من كلام الحكماء:) من علم أنس، ومن جهل استوحش (. وقال تعالى:) بَلْ كَذَّبُوا بما لَمْ يحيطوا بِعِلْمِه وَلماَّ يَأتِهِمْ تَأوِيلُه (: أي لو فهموه لعلموه، فآمنوا به. ويشبه هذا البيت قوله هو:
ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مرِيضٍ ... يَجِدْ مُرًّا به الماء الزُّلالا
وله ايضا:
) كَفِرنْدى فرندُ سَيْفِي الجُراز ... لَذَّةُ العين عُهدةٌ للبراز (
الفرند: ماء السيف، فارسي معرب. إنما هو ما بين الباء والفاء. والعرب تعرب مثل هذا بالفاء المضة، والباء المحضة. هذا قول سيبويه في باب اضطراد الإبدال في الفارسية.
الجُراز: الماضي النافذ. وإنما شبه فرنده بفرند السيف، لأن فرند السيف، دليل على مضاء حده. وعنى بفرند نفسه هنا شحوبه، وتغير لونه من الأسفار والتعب، فجعله فرنداً، لانه دليل على مضاء عزمه، كما أن فرند السيف دليل على مضاء حده.
ففي ذلك شبه فرنده بفرند السيف، وإن لم يكن شُحوبه في الحقيقة فرنداً، بل هو خلاف الفرند، فإنما سماه به، لانه محمود منه، كما أن ذلك محمود من السيف. ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم) لَخلُوفُ فم الصَّائم أحَبُّ إلى اللهِ من المِسْكِ (وليس الخُلوف بطيب، ولكن لدلالته على ما يحبه الله عز وجل من الصيام.
وأما ابن جنى فقال: عنى أن جوهر سيفي كجوهرى. فإن كان عنى بالجوهر الفرند، فخطأ، لأن الفرند إنما هو صفاء السيف بما يحدُث من الصقال، فهو لذا عَرَض.
وإن كان عنى بالجوهر سنخ هذا السيف، أي أن سنخى في نوع الانسان كسنخ سيفي هذلا في نوع الحديد، فصفاء فهمي من جهة شرف جوهري، كما أن صفاء هذا السيف من جملة شرف جوهره، فهو حسن.
ويقوى ذلك أنه قد استطرد في أبيات السيف من هذا الشعر، تشبيهه نفسه به، وجعله نفسه في نوعه، كسيفه في نوعه. ثم أخبر عن نفسه فقال: هو لذةُ العين، أي أنظر إليه فأستملحُه، وهو أيضا عُدةٌ للقتال.