وفي الحرب حتى لو أراد تأخراً ... لأخره الطبعُ الكريم إلى الْقُدو
فجعل التأخير ينعكس إلى التقدم.
ومنه: أنه جعل العدم يُظن به الوجود، كقوله:
) . . . فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيتَ. . . (
) فكم قائل لو كان ذا الشخُ نفسهُ ... لكانَقراهُ مكمنْ العسكر الدهمِ (
النفس روحانية: فاما تعظم عظما روحانيا كعظم العالم العلوي. والجسم جوهرٌ متكائف، فلو تجسمت هذه النفوس لعظم جرمُها، وكانت ذات طوائف جسمانية عظيمة. فكأن ظهر هذا الجسم يستُروراءه عسكراً عظيماً فيحجبه، وإن شئت قلت: لو كان شخصهُ على قدر نفسه في العظم، لكان ظهره مكمن عسكر كبير. وخص الظهر، لأنه لا غُصون فيه، فالكمون فيه أصعب.
) عظُمت فَلَماَّ لم تُكَلَّمْ مهابةً ... تواضعت وهو العُظْم عُظماً عن العُظْمِ (
فأرحت ما بالناس من تهيُّبهم لك، تواضعت عظما عن التعظيم، وهو العُظم في الحقيقة، لأن العظمة والكبرياء إنما يليقان بالأعظم وهو البارئ سبحانه.
و) عَن (في قوله:) عن العُظم (، متعل بقوله عُظماً: بمعنى تعاظم وهو نصب على الحال أو المصدر. وتقدير تالبي: تواضعت عُظماً عن العُظم وهو العُظم أي ذلك التواضع هو العُظم الحقيقي.
وله ايضا:
) أحادٌ أم سداسٌ في أحَادِ ... لُيَيْلَتُنا المُنوضَةُ بالتَّنادي (
أي أواحدة لُييلتنا هذه أم ستٌ في واحدة. لُييلتنا: صغرها تصغير التعظيم، كقول أوس:
فُويق جُبيلٍ شاهِق الرأسِ لم يكن ... ليبلُغهُ حتى يَكَلَّ ويعملا
فقال جُبيل. والجبلُ الذي هذه حاله ليس بجبيل، إنما هو جَبَل.
وأنما وجه تصغير التعظيم، أن الشيء قد يعظم، في نفوسهم، حتى ينتهي إلى الغاية، فاذا انتهى إليها، عكس إلى ضده، لعدم الزيادة في تلك الغاية، وها مشهور من رأى القدماء الفلاسفة الحكماء: أن الشيء إذا انتهى انعكس إلى ضده، ولذلك جعل سيبويه الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وهي نهاية التعدي بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول. قال: لأنه لما انتهى فلم يتعد صار بمنزلة ما لا يتعدى. وهذا منه ظريف جداً.
والتنادي: القيامة، لما جعل الليلة ستا استطالها بعد ذلك، فجعلها هو أكثر مدة، فقال: إنها منوطة بالبعث.
وأحاد: خبر مبتدأ مقدم، ولا يكون مبتدأ لنه نكرة، ولُييلتنا معرفة، فهو أولى بالابتداء، وصغر الليلة على القياس.
) مَتى لَحظتُ بياض الشَّيبِ عَيْنيِ ... فقد لَحَظتْه مِنْها في السوادِ (
أي حزنى على بياض شيبي كحزنى عليه لو رأته عيني في سواد ناظرها. كقول أبى دلف:
في كل يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنما طلعت في ناظر البصر
) مَتى ما ازْددتُ من بعد التَّناهي ... فقد وَقَع انتْقِاصِي في ازْديادي (
أي إذا ازددتُ عمراً بعد تناهي الأشُد، فتلك الزيادة في سني نقصان مني، لنه قد بلغ غاية النماء ببلوغ الأشُد، فهو آخذ بعد ذلك في التحلل إلى بسيط العنصر، كقوله هو وقد مدح بعض الأمراء بشعر عدد أبياته أربعون:
فبعثنا بأربعين مهاراً ... مُهرٍ ميدانه إنشادُه
عَدَدٌ عشته يرى الجسمُ فيه ... أرباً لا يراه فيما يُزادُه
أي عدد عشته أيها الممدوح، لأن سن الممدوح حينئذ، كانت اربعين فسوى عدة الأبيات بعدة سنيه، وقال:) يرى الجسمُ فيه أرباً لا يراه فيما بُزاده (يعنى بالأرب: النماء، ولا يكون إلا إلى الأربعين. فاذا زيد عليها عمرا لم ير الجسم في ذاته تماءً، إنما هو راجٌ عن التركب إلى التحلُّل.
) وأبعَدُ بُعْدنا بعد التدانى ... وأقربُ قُرْبنا قُرب البعادِِ (
يقول: كنت منه بعيداً، فكان البُعد مني حينئذ قريباً، والقربُ بعيداً.
فلما جئتهُ وقربت منه، انعكست الحال، فعاد البعد بعيداً وكان قريباُ وعاد القرب قريباً وكان بعيداً.
ونسب الإبعاد والتقريب إلى هذا الممدوح، لأن انعكاس الحال، إنما كان بسببه. فلولا هو لم يَبْعُد البعُد الذي كان قريباً، ولا قرب القرب الذي كان بعيداً. وإخراجه مصدر أبعد وقرب على بُعد وقُرب، أنما مصدراهما إبعاد وتقريب. على قوله تعالى:) واللهُ أنْبتكُمْ مِن الأرْضِ نباتاً (أي: نبتُّم نباتا. وكذلك ابعد وقرب، مطاوعهما بَعُد وقرُب، فأخرج المصدر عليهما، مثله كثير.