أي شمنا الببروق، ولم يُحجب السماء. أي لا غيم هنالك، فيُحجب أديم السماء، وإنما عنى مخايل يديه، وإن شئت قلت: إن الجو يبسِم بالبرق بعد تعبُّسه بالغيم، وهو يبقى أبداً، فبرقه في صحو، ولا يلحقه عبوس، فيكون ذلك العبوس كالغيم. فجوده هنئ، وليس الغيث كذلك، لأنه وإن حلى الأفق بالبرق، فإنه يحجب حسن السماء، وجمال سِمتها، ويحجبها بالغيم وهذا قريب من قوله هو:
فَترى الفضلة لا تَرُدُّ فضيلةً ... الشمس تُشرق والسحاب كنهورا
عنى بالسحاب الكنهور: نداه، وبالشمس: بشره، وحسن وجهه الوضئ، وسنشبع شرح ذلك في القصيدة التي هو فيها إن شاء الله تعالى.
) وحرى يجودُ وما مرته الريح (. أي حرى نان يجود من غير أن تَمْرِ به الريح.
يذهب إلى تخليص جود هذا المدوح من الكدر، وتفضيله على المطر، لأن ماء المطر وإن كان طهوراً نافعاً، فإن هناك ما يُكدره، وهو الغيم الذي يطمس نور الشمس، فيولد الكُرْبة في النفس والريح التي يتوقع منها الآفات وأنواع الجوائح. وإن شئت قلت: إن الريح هنا مستعارة، وإنما كنى بها عن السؤال، لأن السؤال يستخرج النوال، كما أن الريح تمرى الماء. فيقول: جُوده متبرع يُغنى عن السؤال: كقوله هو:
وإذا عنُوا بعطائه عن هَزِّه ... وإلى فأغنى أن يقولوا وَالهِ
لذلك قال هو أيضا:
والجراحاتُ عنده نَغَماتٌ ... سَبَقَتْ قَبلَ نَيْلهِ بسؤال
وسيأتي شرحه في موضعه: ونظيره قوله:
وَحرَّى يجود وما مرته اليحُ
وعلى هذا القول الأخير قول البحتري:
مواهبا ما تجشمنا السؤال لها ... إن الغمام قليبٌ ليس يحتفرُ
ويجوز) وحرى يجود (بإضمار) أن (، أي وحرى أن يجود.) ما مرته الريح (. جملة في موضع الحال.
وله ايضا:
) لمَ يَلق قبلكَ من إذا اشْتجر القَنا ... جَعَل الطَّعان مِن الطِّعان مَلاذَا (
إن شئت قٌلت معناه: أنك تلقي فسك للطعان محتقراً لها، لتهابك الأقران. وإن شئت قلت معناه: إنك تلوذ من الطعن بطعنك لعدوك، علما أنك إن تهيبته ولم تطعنه طعنك فإما تدفعه باإقدام، لا بالإحجام،) لأنه (تمكين للعدو.
ولهذا قالت العرب: إن الحديد بالحديد يُلف: أي إن الشر إنما يدفع بمثله. كقول قطري:
تأخرتُ أستبقى الحياة لم أجِد ... لنِفْسي حياة مثل أن أتَقدَّما
وقال المتنبي في نحوه أيضا:
فإن تكُن الدولاتُ قسماَ فإنها ... لمنَ ورد الموتَ الزؤام تدُولُ
لمنْ هوَّن الدنيا على النفس ساعةٌ ... وللِبيض في هامِ الكماة صليل
) لمَّا رَأوك رَأوا أباك مُحمداً ... في جوشنٍ وأخاَ أبيكَ مُعَاذَا (
أي) ذكروا (برؤيتهم إباك عمل وأباك. يذهب إلى قوة شبهه بهما كقولهم ابو يرسف ابو حنيفة، أي مثله، وقد قال المتنبي في هذا المعنى:
لو تنكَّرت في المكَرِّ بقومٍ ... حَلَفُوا أنك ابنُهُ بالطِّلاقِ
وله ايضا:
) وكأنما عيسَى بن مريمَ ذكرُه ... وكأنَّ عزر شخصُه المقبورُ (
عازرُ هذا: أخياء عيسى، وإقامه من قبره، فكذلك ذكر هذا البيت يحييه، كما أحيا المسيُ عازر. وترك صرف عازر لأنه أعجمي.
وله ايضا:
) تُشَقَّق منهُنَّ الجُيوب إذا بَدَتْ ... وتُخْضَبُ منهُنَّ اللَّحَى والمفارِقُ (
) تشقق منهن الجيوب (. أي إن البعولة والبنين يقتلون بها، إذا جُردت من أغمادها، فيشقق الثكإلى جيوبهن. و) وتُخضَب منهن اللحى والمفارق (أي يُخضبن بالدم، حتى يُشكل الشابُ والكهل والشيخ، فلا تعرف الثكلى بعلها من ابنها.
) يحُاجى به: مَا ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ ... يُرى ساكتاً والسيفُ عَن فيه ناطقُ (
الصمت والنطف: ضدان، والضدان لا يجتمعان في محل واحد، في وقت واحد، لكن هذا الملك ينطق السيفُ عنه وفمه ساكت، فالأحجية من البيت في الشطر الأول وتحليلها في الثاني، ونُطق السيف عنه؛ عمله في عًصاته وعُداته، إذ السيف جمادُ، والجماد لا نطف له. وإنما هو كقوله:
وقالت الأنساعُ للبطن الحقِ
ولو تقصيت هذا لطال الكلام، لن في مثله يطولُ المثال.
وله ايضا:
) وتُنكرُ مَوْتَهُم وأنا سُهيلٌ ... طَلعتُ بموت أولادِ الزِّناء (
أكثر الموت الواقع في البهائم، إنما هو عند الرعاء بطلُوع سُهيل، فعد أضداده من جهلهم. بهائم يمُيتهم سُهيل. قال: