وانتقلنا إلى العدل بين الناس، أو بتعبير أوضح أن الإنسان لا يظلم من حوله، والإسلام حتى يسد هذا الباب حذر من الظلم، جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، ومن الطرائف في تأديب النفس البشرية حتى لا تظلم ولا تجور، جاءت الآثار تدل على أن الله يقبل دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وهم يومئذ أهل كفر، فقال له وهو يودعه على أبواب المدينة: (واتق دعوة المظلوم فأنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فمن أراد أن ينصف نفسه، أو أراد أن يرتقي بنفسه إلى الدرجات العلى والمنازل الرفيعة فيصنع في كل أحد إذا وقف بين يديه في شيء يخصه ما يحب أن يصنعه الله به إذا وقف بين يديه، وهذه المراتب عالية ودرجات رفيعة لا تعطى لكل أحد، لكن كما قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه ولاه عمر على الكوفة، فاشتكاه بعض أهلها ظلماً وزوراً، فبعث عمر -وهذا من العدل- أشبه ما تسمى بلجنة تحري تسأل الناس عن سعد، فكلما مروا على قوم وسألوا عن سعد أثنوا عليه خيراً، حتى دخلوا مسجداً أظنه كان لبني عبس هناك، فقام رجل فقال: إن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في القضية، وذكر أمور يذم بها سعداً، فقام سعد رضي الله عنه وأرضاه وكنيته أبو إسحاق فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وظلماً وسمعة فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن، يقول راوي الحديث: فإن هذا الرجل الذي ظلم سعداً عُمِّر حتى جاوز التسعين فسقط حاجباه على عينيه من شدة الشيب، وهو في السن هذا احدودب ظهره، وأخذ يمشي في طرقات الكوفة ويتعرض للنساء والفتيات يغمزهن ويلمزهن ويتعرض لهن في طريقهن، فإذا قال له الناس: يا رجل! اتق الله وأكثر من الحياء فلا يصنع من كان في سنك مثل هذا، فيقول مجيباً يبين واقع حاله: شيخ كبير أصابته دعوة سعد، فالإنسان أحياناً قد يؤتى قدرة على أن يظلم، لكنه إن كان لديه رقابة حقيقة مع ربه تذكر أن الله جل وعلا أقدر عليه من قدرته على من يريد ظلمه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وعثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ظلمه الذين خرجوا عليه وطوقوا داره في يوم عرف بيوم الدار، وسمي بيوم الدار لأن الخوارج اقتحموا على عثمان داره، وموضع الشاهد الذي يعنيني هنا تحريره من هذه القضية أن هؤلاء دخلوا عليه وقتلوه، وهو أمير البررة وقتيل الفجرة رضي الله عنه وأرضاه، فلما قتلوه قامت زوجته نائلة بنت الفرافصة تدافع عنه زوجها، فلما أرادت أن تدافع عنه كانت امرأة بدينة نسبياً، فأحد الرجال ضربها من خلفها، فقالت غاضبة والموقف موقف دماء زوجها مضرج بالدماء، قالت: مه -كلمة استنكار- قطع الله يديك ورجليك وأدخلك النار، تدعو عليه مظلومة، فهذا الرجل شوهد بعد سنين في البصرة أو بالكوفة وهو مقطوع اليدين والرجلين ويقول: يا ويلاه من النار! فرآه رجل لا يعرفه فقال: أنت في النار؟ أنت من أهل الجنة أنت مبتلى؛ لأنك مقطوع اليدين والرجلين، فأظنك ستكرم يوم القيامة، فقال: إنك لا تدري لقد دخلت على عثمان يوم الدار وشاركت في قتله، وضربت زوجته فدعت علي قائلة: قطع الله يديك ورجليك وأدخلك النار، فأنا الآن أقول عن نفسي: مقطوع اليدين والرجلين وبقيت واحدة أن أدخل النار، فتجد أن الله أجاب دعوة نائلة؛ لأنها مظلومة، وهنا يتحرر لنا مع القيمة العظمية التي بثها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وهي العدل والإنصاف وعدم ظلم الناس، فهو وإن جاءت بها الحضارة المعاصرة وقامت بها مؤسساتها، إلا أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه كان أسبق إلى هذا كله، وبينه بياناً شافياً عن ربه تبارك وتعالى.
هذا ما تيسر إيراده في التعلق الثاني لنا على ميمية شوقي والتي مطلعها: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم أسأل الله لي ولكم التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.