نعود إلى قول الدكتور العشماوي في قصيدته: ويدر ضرع الشاة وهي هزيلة لبناً ألذ لشاربيه وأوفرا هذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طريقه من شاة أم معبد، وقصة الشاة مشهورة، وأنا لا أحب أن أتكلم في شيء مشهور، لكن سأقف وقفة خفية في الموضوع: نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ومعه أصحابه أبو بكر وعامر بن فهيرة كخادم وعبد الله بن أريقط كدليل، فأصبحوا أربعة، فدخلوا على أم معبد في القصة المشهورة وما كان عندها حليب في الخيمة إلا شاة أخبرت أنها عازب وحيال وأنها أجهدها ضعفها أن تذهب مع الغنم، فمسح صلى الله عليه وسلم على ضرع الشاه وسمى الله ودرت، فهذا كله نقرؤه ما في السيرة، والموقف الخفي: أن النبي أشرف هو الخلق وعامر بن فهيرة إنما جاء خادماً، والعظيم من الناس تنطلق عظمته من نفسه ولا يحتاج إلى أن تسلط عليه الأضواء، فإذا غابت عنه الأضواء ذهبت عظمته، هذا يقال في عظماء الدنيا، وأما من ملك العظمة الأولى أعطاه الله جل وعلا عظمة من عنده هبة ربانية مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يحتاج أن يلفت أنظار الناس إليه؛ لأنه مكتف ذاتياً بما جعله الله في قلبه من العظمة، وتحرير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد هذا الركب، بل هو سيد الناس، بل هو سيد ولد آدم، ومع ذلك هو الذي حلب، وسقى المرأة، وسقى أبا بكر، وسقى عامراً، وسقى عبد الله بن أريقط، ثم شرب، ولو كان غيره ممن يبحث عن العظمة فإنه يحاول سيقول: يا عامر! تعال اسقنا؛ حتى يبين أنه هو الآمر والناهي، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا؛ لأنه عظيم في نفسه ولو لم يدرك بعض من حوله عظمته، فسقى لهم وشرب آخر القوم صلى الله عليه وسلم؛ حتى يبين لكل أحد من أين تنطلق عظمة الإنسان، فالذي يبني عظمته على مدح الناس سيشعر بالإهانة والذل إذا تخلى الناس عنه، لكن العظيم عظيم أينما وضعته، مثل نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، ومع ذلك بيع بثمن بخس، فيوسف في بيت أبيه هو يوسف عندما بيع، وهو يوسف عندما كان في قصر امرأة العزيز، وهو يوسف عندما كان في السجن، وهو يوسف على كرسي الوزارة، فلم يتغير حاله؛ لأن عظمته تنبعث من نفسه، وهذا حال أنبياء الله العظماء، وفي مقدمتهم سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وسلم.
إن المرء إذا كان عظيم الصلة بالله فإنه يعلم أن الله وحده هو المعطي، والله وحده هو المانع، ويعزل نفسه عن مدح الناس أو ذمهم، ويكون همه وغايته رضوان الله، فهذا يشعر بطمأنينة وسكينة مهما تبدل الناس عليه وتغيروا حوله فإنه يبقى واثقاً في خطوته، فيمشي نحو طريقه إلى ربه بخطى ثاتبة يتذكر قول الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، وقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، فيخشى أنه بذنوبه يذله الله، فإذا أحسن الصلة مع ربه أعزه الله جل وعلا بطاعته، فقد قيل: يأبى الله إلا أن يذل من عصاه، فمن أراد السؤدد والفوز في الدارين والسعادة في الحياتين فليحسن الصلة بربه جل وعلا، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم خلق الله صلة بربه تبارك وتعالى، فهذه الصلة العظيمة والاستغفار في فلق الأسحار، والقيام لله تبارك وتعالى، والقيام بواجبه والعبودية على أكمل وجه، هي التي جعلته صلى الله عليه وسلم بما آفاءه الله عليه عزيزاً لا يبلغ عزته أحد من العباد بما وهبه ربه، وبما منحه خالقه.
وهذا فيه درس لكل أحد أن يجعل أمره ويفوضه إلى الله كما قال العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
جعلني الله وإياكم ممن توكل عليه فكفاه، وسأله فأعطاه، واستغنى به فأغناه.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله من تحرير التعليق حول قصيدة الدكتور عبد الرحمن العشماوي في حداء الهجرة النبوية.
نسأل من الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.