إلا أننا ينبغي أن نعلم أن هذا الأمر لم يقم به أحد أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان شعار فرنسا اليوم ثلاثة شعارات وهي: المساواة والحرية والإخاء، فإن المساواة قالها نبينا صلى الله عليه وسلم في حديثه الشهير: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، وقوله صلى الله عليه وسلم لما أتت إليه قريش بقدها وقديدها تقدم أسامة بن زيد ليشفع في المرأة المخزومية، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، ولا يوجد في النساء أشرف من فاطمة، وهي البضعة النبوية والجهة المصطفوية رضي الله عنها، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: إن قربها مني وكونها بضعة مني لا يعفيها ذلك من إقامة الحد عليها لو أنها سرقت، وهذا مبدأ عظيم وموئل كريم جاء به رسول الهدى ونبي الرحمة ورسول الإنسانية جميعاً، وهو الذي تتغنى به الحضارة المعاصرة، لكننا ينبغي أن نكون منصفين نحكم بالعدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فنقول: إن الحضارة الإنسانية المعاصرة اليوم بلا شك أنها بعدت كثيراً -وهذا من فضل الله علينا- عن كثير من التجبر والظلم الذي كان سائماً في عصور سابقة وأيام غابرة، لكن الحضارة الغربية كفرت بالطاغوت إلى حد كبير لم تعظم الفرد، لكنها لم تؤمن بالله، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء بدين نؤمن من خلاله بالله تبارك وتعالى رباً، فنعبده جل وعلا وحده لا شريك له، ونخلص له العمل، وننبذ كل طاغوت متجبر وراء ظهرنا.
نعود فنقول: إن شوقي يتغنى بالحضارة الإسلامية: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم والنبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك في فاطمة ابنته بينه في نفسه، فقد وقف صلى الله عليه وسلم يوم بدر يسوي الصفوف، فإذا بأحد أصحابه -وأظنه عكاشة - يتقدم، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم من باب حيثيات عمله، حتى يرجع إلى الصف بشيء كان في يده، فقال ذلك الصحابي الجليل: أوجعتني يا رسول الله! فطلب القصاص، فقام نبي الرحمة ورسول الهدى -وهو أشرف من يمشي على الأرض- فكشف عن بطنه وقال اقتد يا عكاشة، لكن هذا الصحابي لم يكن يروم قصاصاً، وإنما كان يروم التصاقاً بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
فعرفنا من هذا الموقف وزدنا يقيناً بعدل نبينا، لكن ذلك الصحابي ضم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى - أي: الموت والطعن والرماح والسيوف والعدو وملاقاته- فأحببت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك يا رسول الله).
هذا الموقف العاطفي هنا قد لا نستطيع أن نبحر فيه كثيراً، وإنما نتكلم عن موقف العدل، فهذا هو نبي الرحمة ورسول العدل صلى الله عليه وسلم يقيمه بينه وبين أصحابه.
ويعدل بين نسائه وزوجاته في النفقة والمبيت والسكنى، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما أملك ولا أملك)، وكان صلى الله عليه وسلم في الآداب التي علمها الناس يعطى السقاء والإناء الذي عن يمينه، فجلس على شماله أبو بكر ومشيخة الصحابة، وعن يمينه غلام صغير، فلما جيء له بالقدح وشرب أعطاه الذي عن يمينه، وهذا من كمال عدله صلوات الله وسلامه عليه.
ويعلم عليه الصلاة والسلام أن الأسرة مجموعة أفراد، فيقول: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، لأن الضغينة إذا تكونت في الأسرة فسد المجتمع، فالمجتمع أصلاً ليس إلا مجموعة أسر، فهو عليه الصلاة والسلام بدأ بالنفس الإنسانية يصلحها، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ثم ينشر العدل بين الرجل وأزواجه، ثم ينشر العدل بين الرجل وأولاده: (اتقوا واعدلوا بين أولادكم)، ثم ينشر العدل في المجتمع، فينزل القرآن: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فإذا كان الله يأمرنا بالعدل مع أعدائنا، فكيف مع أهلينا وموالينا وإخواننا وبني جلدتنا ومن يدين بدينا! ذلك أولى وأحرى، أي: ملك يقوم على الظلم فهو منتهي، وأي: ملك وأي حضارة بتعبير أوضح تقوم على العدل والإنصاف فإنها تبقى، وهذا سر بقاء كثير من الحضارات، وأما التي تقوم على الظلم فإنها لا تلبث أن تنتهي، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بالعدل فقط، وإنما أتى بكثير أو بكل ما يمكن أن يصلح الله به البشرية، لكن نحن مقيدون بالبيت الشعري.
وقد بعث صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر؛ لأن النبي صالح يهود خيبر على النصف من الثمار والتمر، ومعلوم أن خيبر وإن كانت بلدة شديدة الحمى إلا أنها بلدة كثيرة التمر، يقول حسان: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا ومع ذلك لما ذهب عبد الله بن رواحة -وهو التلميذ النجيب في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم- وأراد أن يأخذ منهم نصف ثمارهم قال لهم: يا معشر يهود! والله إنكم أبغض خلق الله إلي.
وهذه الطريقة مرضية في التعبير عما في نفسك، لكن لا تتجاوز إلى بخس الآخرين حقهم.
وإني قادم إليكم من أحب الناس إلي، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولا يمنعني بغضي لكم وحبي لهم أن أجور بينكم، فقد أمرت بأن أعدل، فعدل في خرص النخل، فقالت اليهود -وهم أهل العلم بلا شك، لكنهم لا يعملون بعلمهم- قالوا: بالعدل قامت السموات والأرض.
فالله جل وعلا يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
إذا تجاوزنا مسألة قول شوقي: إن الملك مظهره في نهضة العدل