وقد أخذ العلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلق كثير، وسنعرج هنا على بعض علماء الأمة الكبار الذين قد يصدق فيهم كثيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، وأنا أريد بإيضاحي لهذه المسألة أن يعني العالم بمسألة مهمة وهي قضية كيف يربى الطلاب؟ فإن تربية الطلاب مسألة جليلة الأهمية، فكل من طار قبل أن يريش فإنه يقع، يذكرون عن أبي حنيفة النعمان رحمة الله تعالى عليه أنه كان ذات يوم في مجلسه، وكان من تلاميذه أبو يوسف الذي أصبح بعد ذلك قاضي القضاة، وقد نشأ أبو يوسف يتيماً، فأمه كانت تطلب منه أن يعمل عند رجل آخر، يعني: يعمل في مهنة أو صنعة ويأتيها بمال بدانق أو دانقين، فكانت المرأة إذا رأت ابنها في حلقة أبي حنيفة تعاقبه، فكان أبو يوسف يوم أن كان يتيماً صغيراً يحتار يتردد ما بين العمل والمهنة التي تطلبها أمة وبين الجلوس بين يدي أبي حنيفة، وهذا العالم الرباني أبو حنيفة كان ممن آتاه الله نوراً يستشرف به المستقبل، فذات يوم جاءت أم أبي يوسف وضربت ابنها، فمنعها أبو حنيفة، وقالت له المرأة محتجة: إن ابني يكسب من صنعته كل يوم دانق أو دانقين، فقال لها أبو حنيفة: والله إن ابنك سيأكل الفالوذج بزيت الفستق.
والفلوذج نوع من الحلوى لم يكن يومئذ يوجد إلا في بيوت الأثرياء، وزيت الفستق أو دهن الفستق لا يوجد إلا في بيت الخليفة، فاغتاظت المرأة منه وقالت: والله إنك رجل مجنون، ضعيت ابني اليتيم وحرمته من كسبه، فمرت الأيام ولزم أبو يوسف حلقة أبي حنيفة حتى مات أبو حنيفة، وأصبح أبو يوسف بعد ذلك يتصدر مكانه، ودانت له العلماء، وهو أحد من غرفوا علم نبينا صلى الله عليه وسلم، فلما دانت له العلماء وأصبح ذائع الصيت كان قريباً من هارون الرشيد، فكان يدخل على هارون الرشيد في قصره، وذات يوم قدر لـ أبي يوسف أن يتعشى عند هارون الرشيد، فقدم له هارون قطعة من الحلوى، وقال: يا أبا يوسف! كل فهذا فالوذج بدهن الفستق، فتبسم أبو يوسف، فتعجب هارون من تبسمه، وقال: ما الذي يدفعك إلى هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، وحكى له القصة.
فتحققت فراسة أبي حنيفة في أبي يوسف أنه أصبح وارثاً للعلم، قائماً به بين الناس، حتى أصبح الخلفاء يجلونه ويقدرونه ويقدمون له الطعام، فقال هارون معلقاً: لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقله ما لا يراه الناس بعيني رءوسهم.
فهذا مثل نضربه على واحد ممن ورثوا علم نبينا صلى الله عليه وسلم في قضية أنه يصبّر طلابه على العلم، ويقال لهم ما يمنيهم ويجعلهم يصونوا العلم، فبه تعلو منازل الدرجات، وإن كنا نجزم أنه لم يكن مقصود أبي حنيفة أن يكون أبا يوسف دنيوياً، ولم يكن أبو يوسف كذلك، لكنها في قضية مفهوم كلمة الطلب.
وكذلك مما يعين على أن يصل الإنسان إلى منزلة عليا في العلم أن يخدم الإنسان من هو أعلم منه، وقد قدر لـ يحيى بن يحيى أن يصحب الليث بن سعد، وكان الليث بن سعد يوماً على بغلته في المدينة فجاء يحيى بن يحيى والليث لا يعرفه وهو يومئذ غلام، فأخذ يسوق البغلة لليث، فرق له الليث وأعجب بصنيعه هذا، وقال: يا غلام خدمك العلم، دعوة من عالم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قالها مضت الدنيا بقدر الله بـ يحيى بن يحيى رحمه الله حتى عاد إلى الأندلس وأصبح إماماً ومفتياً بها، ويدخل على الخليفة والأمير متى شاء، فتحققت فيه دعوة الليث بن سعد رحمة الله تعالى عليهما، فصحبة العلماء تعطي نوعاً من البركة على الإنسان ينالها ويشعر من إقبال التوفيق ما يناله.