قال المصنف رحمه الله: [ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفةً خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات.
والعقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق].
أي أنهم لما لم يحققوا المعاني الصادقة من جهة العقل والشرع، ربما نفوا وجهاً من الغلط، ولكنهم لم ينفوا الوجه الآخر، والحكمة العقلية والشرعية ليست هي أن تعرف وجهاً من الحق دون بقيته، ولا أن تنفي وجهاً من الباطل دون بقيته، فإن الذي عرض لجمهور أهل القبلة من الطوائف المخالفة للسنة والجماعة: أنهم أثبتوا وجهاً من الحق ونفوا وجهاً من الباطل، ولذلك إذا قيل مثلاً عن المعتزلة: هل لا يوجد عندهم إثبات لشيء من الحق ولا يوجد عندهم نفي لشيء من الباطل؟ فالجواب: لا؛ بل عندهم إثبات لحق ونفي لباطل، ولكن امتياز أهل السنة والجماعة في هذا المقام، ولا يمكن أن يقال عن طائفة من طوائف المسلمين أنها تجردت عن الحق من كل وجه؛ لأن من تجرد عن الحق من كل وجه لم يكن مسلماً، فمن لم يعرف معنى (لا إله إلا الله)، ولا الربوبية، ولا النبوة، ولا الكمال ..
فإن هذا لا يكون مسلماً.
إذاً: هؤلاء عرفوا وجهاً من الحق، ولكنهم لم يعرفوا الباطل، أو أثبتوا وجهاً من الحق ولم يثبتوا بقيته، ونفوا وجهاً من الباطل ولم ينفوا بقيته؛ والبقية الأولى من الحق إما أنهم غافلون ساكتون عنها، وإما أنهم يظنونها من الباطل، فهم يثبتون حقاً ويسكتون عن بقيته، أو ينفونه لكونهم يظنونه من الباطل، وينفون وجهاً من الباطل ويسكتون عن بقيته غفلةً عنه، أو يظنونه شيئاً من الحق, فربما أثبتوا وجهاً من الغلط والباطل.