تأثر بعض الحنابلة بمعتقدات النفاة كالأشاعرة ونحوهم

وأبو الحسن الأشعري لما رجع ومال إلى السنة وعظم الأئمة، وجاء كبار أصحابه كالقاضي أبي بكر ابن الطيب وأدرك قوماً من مقتصدة الحنابلة؛ بل من المائلين من الحنابلة إلى بعض مسائل التأويل، وهم قوم من التميميين من الحنابلة الذين كانوا يجوزون بعض المسائل ويتأثرون بطرق الكلابية.

والحنابلة هم أخص الطوائف التي كانت معنية بمسألة إثبات الظاهر ودفع التشبيه وما إلى ذلك، كتاريخ وليس كحقيقة، فإن الحقيقة أن السنة والجماعة موجودة في الشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية وأهل الحديث ونحوهم، لكن كتصورات تاريخية عامة.

فالمقصود: أن هؤلاء الحنابلة كانوا متوالفين مع القاضي أبي بكر ابن الطيب وأمثاله من شيوخ الأشعرية، حتى إن القاضي أبا بكر ابن الطيب الباقلاني لتسالمه وتوالفه مع الحنبلية إذ ذاك -مع بعض الاختلاف الذي كان موجوداً، كما يذكره ابن تيمية وأهل الأخبار في التراجم- كان يوقع جواباته الفقهية للأمصار حينما يستفتى ويكتب: (محمد بن الطيب الحنبلي)، مع أنه ليس فقيهاً حنبلياً، أي: ليس على مذهب الإمام أحمد في الفقه، لكن هذا نوع من التوالف والتسالم الذي كان بينهم.

ثم لما جاءت فتنة (الفراعية) أتباع القاضي، حصلت بعض النزاعات التي كان لها أثر سلطاني، فإن السلطان ربما ساعد بعض الطوائف الخارجة عن السنة، كما حصل في بعض الدول كحال المأمون وغيره.

ثم بعد ذلك انقطع هذا التوالف بينهم، فلما كثر الاختلاف بين الحنابلة والأشعرية صار كل قوم يقصدون إلى الانتصار لمذهبهم، فنجد أن بعض الحنبلية ربما تعدوا بالانتصار إلى نوع من الزيادة في الإثبات، وكذلك الأشعرية تعدوا بالانتصار فخرجوا عما كان عليه أبو الحسن الأشعري وقدماء أصحابه إلى نوع من طريقة المعتزلة، ولذلك يقول ابن تيمية: "وأبو المعالي الجويني لما كثر النزاع بينهم وبين الحنبلية شرب كتب أبي هاشم الجبائي ".

أي: أنه درس كتب الجبائي؛ لأنها كتب منظرة على طريقة الردود المفصلة، فتأثر بها؛ ولذلك فإنه من أخص من قرر الصفات السبع وحدها، أما الأوائل كـ الأشعري والباقلاني فكانوا مثبتين للصفات الخبرية؛ كصفة الوجه واليدين ونحوها.

فالمقصود: أن المذهب الأشعري دخله هذا التقصير على يد جماعة منهم الجويني، وإن كان الجويني ركض في هذا المقام كثيراً، وصنف هذه الكتب، وانتصر لها، وبالغ في التقرير، وشدد في المذهب الأشعري على غير طريقة محققي الأشعرية المتقدمين، ثم تبين لـ أبي المعالي الجويني أن هذه الطريقة التي ركض فيها ليست طريقةً محكمةً من جهة الشرع ولا من جهة العقل، فأعلن رجوعه عنها، وكتب الرسالة النظامية، وهي رسالة تدل على رجوعه عن نظرية التأويل، وإن كان لم يصب التحقيق، فقد ذهب إلى تمجيد التفويض، وزعم أنه لا بد من التأويل أو التفويض، وأن التفويض هو درب الأئمة والسابقين الأولين، وهذا غير صحيح، وإن كان يحمد للجويني الرجوع في الجملة، فإنه يحمد لهؤلاء؛ لأن الجويني وأمثاله كـ أبي حامد، الأصل فيهم أنهم قصدوا اتباع الحق، وإن كان هذا القول هو قول مجمل، فإن الله هو العالم بأحوال العباد.

وإن كان يقال أيضاً -مع القول بأنهم قصدوا الحق-: قد ظهر عندهم شيء من مقامات التعصب، وهذا التعصب لما دخل على الفقهاء أفسد كثيراً من فقههم، ولما دخل على المخالفين للسنة والجماعة أقامهم في بدعتهم، ولم يقربهم إلى السنة، ولذلك ينبغي أن ينفك طالب العلم عن التعصب للأعيان، ويكون تعصبه للحق، لكنه يكون على قدر من الفقه كما سبق.

قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو].

القاضي أبو يعلى من شيوخ المذهب الحنبلي كما هو معروف، وقد كان في أول أمره متأثراً بشيء من كلام الكلابية، ثم رجع عن ذلك في الجملة.

وقد عرض لبعض الحنبلية أنهم تأثروا بشيء من هذا الكلام؛ كـ أبي الوفاء ابن عقيل، فإنه درس علم الجدل وعلم الكلام على بعض شيوخ المعتزلة؛ كـ أبي علي ابن التبان، وأبي القاسم ابن الوليد المعتزليين، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي الحنفي.

فدرس أبو الوفاء ابن عقيل على هذين، وتأثر بشيء من طرق المعتزلة، ولا سيما في منهج الاستدلال، وتأثر بجملة من نتائج الكلابية في مسائل الصفات، وإن كان ابن عقيل رجع عن كثير من ذلك أو عن أكثره، وصنف (الانتصار لأهل الحديث)، وكتب توبةً معروفةً شائعةً في ذلك العصر.

فهؤلاء من الحنابلة أو غير الحنابلة قد عرضت لهم بعض المسائل التي خالفوا فيها المنهج الحق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015